عقلية الخصخصة تصل إلى البحر.. و المرافئ ضحيتها الجديدة
دخل السجال بين الحكومة ونقابات العمال مرحلة جديدة من التكهنات على خلفية طرح الشركات العامة من قبل الحكومة للاستثمار الخاص، وهو الأمر الذي وجدت فيه النقابات شكلا ًمن أشكال الخصخصة التي تهدد مصير العاملين في هذه الشركات وتفضي بهم إلى مستنقع البطالة نظراً لتشميل هذه الاستثمارات بأحكام قانون الاستثمار رقم 10 الذي يعفي المستثمر الخاص «المحلي والأجنبي» من الالتزام بقانون العمل رقم 49 لعام 1962 لجهة حماية العامل من التسريح الإلزامي وتسجيله لدى مؤسسة التأمينات الاجتماعية.
وفيما يتوقع أن يقوم بعض أعضاء المجلس العام لاتحاد نقابات العمال الذي سيعقد في وقت قريب بتقديم اقتراح لرفع دعوى قضائية ضد الحكومة لمخالفتها نص المادة 14 من الدستور التي تنص على «ملكية الشعب للثروات الباطنية والمرافق والمؤسسات المؤممة أو التي تقيمها الدولة شرط أن تقوم الدولة باستثمار هذه الشركات بنفسها والإشراف على إدارتها لصالح مجموع الشعب»، فإن الحكومة لاتزال تتجاهل كل الاحتجاجات العمالية باستمرارها في سياسة الخصخصة (معمل الحديد + الأسمنت) ولتطرح مؤخراً مرفأي طرطوس واللاذقية للاستثمار الخاص ليصبح مصير القطاعات الأكثر استرتيجية تحت وصاية وانتداب الشركات الأجنبية ووكلائهم المحليون خاصة وأن 80% من حجم التبادل التجاري للبلد يتم عبر المرفئين المذكورين وهو الأمر الذي يمكن أن يكون له آثار بالغة الخطورة على الاقتصاد الوطني نظراً لحالات الاحتكار التي سيفرضها القطاع الخاص.
ورغم أن عمال الساحل في محافظتي طرطوس واللاذقية هددوا بشكل مباشر بالوقوف في وجه من يريد خصخصة المرافئ وعدم السماح بالتفريط بالقطاع العام نظراً لأنه مصدر رزق لأكثر من خمسة آلاف أسرة، ولايزال الموضوع خاضعاً للمد و الجزر بانتظار تدخل الاتحاد العام لدى رئاسة مجلس الوزراء بإيقاف المشروع وصرف النظر عنه، في حين أكدت مصادر مطلعة بأن الحكومة لن تتراجع عن قرارها تحت ضغط بعض أصحاب النفوذ الذين أسسوا لشركات وهمية في الدول المجاورة بهدف الدخول إلى المرافئ لاحقاً، بالإضافة إلى ضغوطات منظمة التجارة العالمية التي تقوم بفرض خصخصة الموانئ ضمن برناج التقويم الهيكلي كشروط للمنح والقروض حيث عبر البنك الدولي صراحة على أن «فائض اليد العاملة هي أحد أهم الخاصيات المؤسفة في أغلب الموانئ وسيكون ضرورياً خفض أعداد العاملين من أجل تحسين المردودية ـ أي تخفيض تكاليف النقل ـ »
رؤوس كبيرة ومصالح خاصة
منذ أكثر من سنتين تقوم وزارة النقل بطرح مشاريع استثمارية لمرفأ طرطوس وجميعها تصب باتجاه خصخصة أعمال هامة وأساسية فيه، مثل محاولتها خصخصة أعمال التفريغ والشحن وصيانة الآليات وطرحت بالإضافة لذلك بعض المشاريع للاستثمار وفق نظام BOT التي أسقطتها نقابات العمال على مدار السنتين، لكن وزارة النقل وإدارة المرفأ بضغط من أحد الرؤوس الكبيرة في الساحل قامت مؤخراً بالإعلان رسمياً عن استدراج عروض أسعار خارجي للشركة العامة لمرفأ طرطوس بغرض إقامة محطة حاويات وفق دفتر الشروط المالية والحقوقية والفنية برقم 6329 المعد من قبل خبير لدى بنك الاستثمار الأوروبي، وهو الأمر الذي أثار احتجاجات واسعة لدى العاملين في المرفأ لأن ذلك عملياً يعني رفع يد الدولة عن هذا القطاع، وسيؤدي استثمار محطة الحاويات من قبل القطاع الخاص إلى إخراج 300 دونم من مساحة المرفأ علماً بأن المرفأ يضيق بالبضائع الواردة إليه وأماكن التخزين فيه مليئة ولاتوجد مساحات معطلة بالمرافئ وبالتالي إعطاء القطاع الخاص هذه المساحة الكبيرة سيكون على حساب القدرة التخزينية والاستيعابية للمرفأ وسوف يؤدي إلى تأخير تفريغ السفن الواردة ومايترتب على ذلك من غرامات تأخير كبيرة سوف تدفعها الدولة بالقطع الأجنبي خاصة وأن هناك الآن أكثر من أربعين باخرة في عرض البحر تنتظر إفراغ حمولتها.
علماً أن 300 دونم التي ستخرج من المرفأ لحساب القطاع الخاص هي من أفضل أرصفة المرفأ وأجودها صلاحية وتقع على أفضل الأعماق الصالحة لاستقبال كافة الحمولات وبالتالي انعدام إمكانية المرفأ عن استقبال البواخر التي تحتاج إلى مثل هذه الأرصفة والأعمال وسيؤدي إلى خسارة كبيرة لشركة المرفأ بسبب عزوف البواخر عن الورود إليه وسيخلق فائض بالعمال القائمين في أماكن الإيداع لأن مؤسسات القطاع العام المتعاملة مع المرفأ تقوم باستيراد وتصدير بضائعها مع إعفاء البعض منها عن طريف مرفأ الدولة، في حين أن القطاع الخاص لن يقبل بذلك إلا بأجور عالية، مع العلم بأن التعرفة المرفئية جاءت وسطية لكل أنواع البضائع بما فيها الحاويات، وإذا تم الاستثمار فإن أعمال المشولات الصعبة والتعرفة الوسطية الحالية ستكون غير مناسبة لظروف عملها،بالاضافة الى مايمكن أن ينجم عن ذلك من تعدد للإدارات داخل المرفأ بشكل يؤدي إلى عرقلة العمل وتضارب في الخطط، نظراً لامتلاء الساحات بالبضائع وصعوبة حركة الآليات عند دخولها وخروجها من المرفأ وإليه، وسيأتي وجود ساحة للحاويات ليزيد من صعوبة هذه المشاكل وتعقيدها بالإضافة إلى توجه بقية القطاعات المتعاقدة مع المرفأ للعمل مع القطاع الخاص مما سيؤثر على دخل الشركة وخسارتها بسبب حرمانها من مصادر دخلها الأساسي.
اعتراض عمالي على الاستثمار
نقابة عمال النقل البحري في طرطوس وصفت هذا الإجراء بأنه «نوع من الخصخصة ودعم للقطاع الخاص على حساب القطاع العام كما حدث أثناء تجربة شركة التوكيلات الملاحية»، وكانت وجهة نظر النقابة أن يتم إنشاء محطة حاويات بخبرات مرفئية محلية أو عالمية شرط أن تبقى الإدارة والإشراف للشركة العامة، لأن طرح الموضوع للاستثمار سيؤدي إلى تعدد الإدارة بالشركة (مرفأ ضمن مرفأ) وسيفتح الباب لطرح أماكن إيداع أخرى على الاستثمار من قبل القطاع الخاص وبالتالي انعدام إمكانية تأمين الرواتب للعمال.
وأضافت النقابة: بأن «الوضع العام للاقتصاد الوطني بني على أساس الاقتصاد الاشتراكي وأن مانشاهده هو البدء بأسلوب اقتصادي معاكس (اقتصاد السوق الحر)» معتبرة بأنه ليس هناك من ضرورة لهذه الإجراءات، فالشركة رابحة وتنجز أعمالها بنسبة تزيد عن 100% مطالبة في الوقت نفسه «بدعم المرفأ بالآليات والعناصر الخبيرة وإملاء الشواغر وفتح الملاك لتعيين الخبرات اللازمة أو السماح بإجراء عقود ومسابقات أو عن طريق الشؤون لأخذ حاجة المرفأ من المرشدين والربابنة والبحارة والعمال وغيرهم من أجل إمكانية المنافسة مع المرافئ الجديدة».
وإلى جانب ذلك أصدر اتحاد عمال محافظة طرطوس مذكرة أوضحت فيه قلق العمال من المحاولات المتواصلة التي تقوم بها وزارة النقل وإدارة المرفأ لإبعادهم عن العمل وإعطاء الأعمال التي يقومون بها والتي تشكل مصدر عيشهم للقطاع الخاص، مؤكدة في الوقت نفسه تصميم العمال على الدفاع عن مصالحهم والتمسك بها من خلال الإبقاء على شركة المرفأ بدون إعطاء أي جزء منها للقطاع الخاص وإدارتها من قبل الحكومة، وأضافت المذكرة: «أن وجود مثل هذا الاستثمار في مثل هذه الظروف سيخلق أضراراً كبيرة بالشركة والعاملين فيها وسوف يقلص دور هذه الشركة في الدخل الوطني باعتبارها شركة رابحة وترفد الخزينة بدخل يتزايد باستمرار جراء مايبذله العاملين فيها رغم كل العقبات» وطالبت مذكرة اتحاد عمال طرطوس الاتحاد العام لنقابات العمال بالتدخل لدى رئاسة مجلس الوزراء لإلغاء هذا الإعلان وصرف النظر عن هذا المشروع وأي مشروع آخر داخل المرفأ، مؤكدة بأنها «ليست ضد استثمارات القطاع الخاص ولكن خارج المنشآت العامة.
اللاذقية... خصحصة موازية وأعترض موازي:
حققت الشركة العامة لمرفأ اللاذقية أرباحاً بلغت 1.888 مليار ليرة في العام 2004، ولاتزال تقوم بتنفيذ المشاريع والتجهيزات وتضع الخطط المستقبلية لتطوير عملها مع الإشارة إلى أن العمل يستمر 24 ساعة في اليوم ولاتعاني البواخر من أي تأخير في التفريغ بدليل أن المرفأ لم يدفع أي غرامات تأخير للسفن، لكن اللجنة الإدارية بتاريخ 4/8/2005 وبموافقة الوزارة والمدير العام لمرفأ اللاذقية قررت مباشرة بإعداد مايلزم للإعلان عن متطلبات تطوير محطة متخصصة للحاويات بالسرعة الممكنة ومن ثم الإعلان عنها للاستثمار وفق دفتر شروط يعد في مرفأ طرطوس، لكن مكتب نقابة النقل البحري والجوي باللاذقية وضع وجهة نظره حيال ذلك بأنه مع تطوير المرفأ وإنشاء محطة حاويات وغيرها على أن تديرها الشركة العامة لمرفأ اللاذقية، لا أن تطرح للاستثمار وأن تقوم الدولة بتأمين النقص الحاصل في عدد العمال والآليات والاستعانة بخبراء الإدارة إذا لزم الأمر، كما نوه مكتب النقابة إلى أن أجور عمال الإنتاج هي كمية الطوناج المنتج في الساحات و الأرصفة والمستودعات مضروبة بسعر الطن وفي حال خصخصة محطة الحاويات مع غيرها من الساحات والمستودعات فإن العمال البالغ عددهم 700 عامل سيبقون بدون راتب .
إلى جانب ذلك تقدمت شركة جود مع مجموعة من رجال الأعمال العرب بطلب تأسيس شركة شحن وتفريغ ومناولة لتقديم الخدمات التي ستأخذ من حرم المرفأ مكاناً لعملها وممارسة نشاطها، والعمل على التفريغ الآلي لها ولغيرها كخدمة مأجورة داخل حرم المرافئ السورية والمناطق الحرة بشكل حر يعفيها من أية شروط تعلق أعمالها دون أن تكون مقيدة بتشغيل الآليات والعمال العائدين لشركة المرفأ بحجة تخفيف الضغط عن المرافئ والتوفير في الغرامات المدفوعة والتقليل من احتمالات تكدس البضائع والسفن بدعوى سرعة التفريغ بالمناولة. لكن ممثلي العمال في اللجنة الإدارية أبدوا تحفظهم على الاستثمار وطالبوا باستنفاد طاقات المرفأ البشرية والآلية خاصة وأن المرفأ على عكس ماتم تداوله لايدفع أية غرامات تأخير لعدم وجودها والبضائع لاتتكدس بسبب التفريغ السريع، إضافة إلى أن طلب شركة جود بالعمل دون تدخل الدولة والسماح لها بالتفريغ للغير وتقاضي الأموال وتأسيس شركة تقاضي بدلات والمطالبة بمساحات كبيرة تجعل طلب شركة جود بمثابة «مرفأ داخل مرفأ» على خلاف ماهو معمول لدى المرافئ، ومع ذلك فإن وزارة النقل وبدون أية مناقشة لمضمون التحفظ أعطت الأمر بالإعلان عن الاستثمار.
من جهتها طالبت المذكرة التي أصدرها مجلس اتحاد عمال اللاذقية من الاتحاد العام لنقابات العمال «بالتدخل لدى وزارة النقل لإيقاف عملية الاستثمار في مرفأ اللاذقية لأن المرفأ ليس خاسراً» وأضافت المذكرة: «بأن الحركة النقابية تطالب بوضع برنامج للتنمية الاقتصادية والتوقف عن تنفيذ الإجراءات الموجهة ضد القطاع العام، وتتخوف من السماح لهذه الشركة الخاصة أو غيرها في المستقبل من التوسع إلى الساحات الأخرى وحرمان الدولة من مداخليها، حيث يتم بحجة التحول نحو اقتصاد السوق إلى تقليص دور القطاع العام ونسف المكتسبات الاقتصادية والسياسية في البلاد» مضيفة: «أن اتحاد العمال مع تطوير ساحة متخصصة للحاويات تدار من قبل الشركة العامة للمرافئ وضد إتاحة أية فرصة للاستثمار الخاص لعدم الحاجة إلى ذلك، وليتحول القطاع الخاص إلى مشاريع لاتعمل فيها الدولة أو يقوم ببناء مرافئ جديدة».
■ كاسترو نسي