كثيرة هي المرات التي أشارك فيها بجنازة.. ونادرة هي الحالات التي أرثي بها الأعزاء..

رغم ذلك، لم أستطع تفسير رغبتي بالقدوم إلى دمشق والمشاركة بتقديم كلمة رثاء، إلا نوعاً من الحب الدفين، أكنّه لشخصك النبيل يا كمال! تعزز كثيراً في السنوات الأخيرة..

آهٍ يا صديقي لو تعرف كيف تلقيت نبأ رحيلك!

في ليل 6/9/2005  كنت ومجموعة من الأصدقاء على شاطئ البحر، نغني ونمرح ونرقص..

نعم لقد كنت أرقص، وأنا الذي لا يرقص أبداً، ولا يفرح إلا نادراً. وإذ بهاتفي يرنّ وكانت على الطرف الآخر شقيقتك:

سألتني: هل أنت فلان؟ أجبتها نعم. قالت لي: أنا أخت كمال مراد...

هبط قلبي على الأرض، فهذه أول مرة يتصل بي أحدٌ من أشقائك. 

ابتعدت عدة خطوات عن الأصدقاء وسألتها ملهوفاً وأنا في حالٍ من الذهول التام!: خير يا أختي؟ أجابت بعد تردد وبصوتٍ متهدّج مكسور: كمال... العمر لك!...

لك أن تتخيل يا صديقي حالتي آنذاك! خبرٌ بمثل هذا الحجم من الفجيعة يصفعني وأنا أرقص!!

لقد كنتُ كعاشقٍ يتذكّر حبيبته وهو يراقب عصفوراً شقياً يداعب أنثاه ويطاردها بمرح، فيلتفت إلى الجهة الأخرى باسماً منشرحاً، فتصطدم عيناه بمنظر طفلٍ رضيعٍ يذبح!!

لم أصدّق ما سمعت وعدتُ للرقص من جديد معتبراً أن الخبر الذي سمعته مجردّ كابوس يقظة... وبدأت أرقص  وأرقص ولكن كالمذبوح من الفجيعة! فقد اختلطت عليّ الأمور وعشت حالة من انعدام الوعي وكأنني في اللا مكان واللا زمان.  لدرجة أحسست بالاختناق، بالتمزق...

وفي لحظة صحوٍ توقفتُ فجأة وسارعت بإجراء الاتصال مجدداً مع شقيقتك. وأعلمتها بأنني منذ لحظات تعرّضت لحالة من فقدان الوعي هاجمني خلالها كابوسٌ لعين.. وسألتها ما به كمال يا أختي؟ وبصوت مبحوح مخنوق عادت وأكدت الخبر...

إذن فقد توقف قلبك الكبير عن الخفقان ورحلتَ يا كمال!!

عندما أبلغت زوجتي بالخبر الصاعق، وبعد أن تمالكتْ نفسها سألتني وهي تنشج: كيف توفي كمال؟ أجبتها بالجلطة. أردفت بعد تنهيدة: ويلي عليه! وهل كان يتوقع أن يموت بداء النقرس؟ وهل كان يتوقع أن يعمّر ليجروا معه مقابلة أسوة بالمعمرين الذين عاشوا أكثر من مائة سنة؟ أنتم الكتاب والسياسيون في هذا الشرق البائس، مكتوبٌ عليكم الموت إما بالسرطان أو الأزمات القلبية أو السكتات الدماغية.. أو...

نعم يا كمال! هذا هو قدر المناضلين والمبدعين الشرفاء أمثالك..

بعد عودتي من المشاركة في جنازتك ووصولي إلى اللاذقية، كنت محطماً تماماً. فقررت المسير مسافة أربعين كيلومتراً وأنا في هذا العمر، لأخفف من حزني وعذابي لفراقك. مشيتُ بين الجبال والوديان، وعبرتُ السواقي والوهاد حتى تمزقت ثيابي من الحراج الشوكية.. ومع ذلك لم يفارقني طيفك الغالي... 

كنت أمنّي النفس بهذا المسير الشاق، مساعدتي على ألاّ تشرئبّ صواري الحزن في داخلي.. ألاّ تفوح مساماتُ قلبي برائحة الردى والغضب السقيم.. والنتيجة كانت أن بقبقت قدماي ونزّ الدم منهما.. لتذكّرني بحالتي عندما استضافتني الحكومة في أحد أقبيتها الرهيبة، بغية (تأديبي وإعادتي إلى رشدي..) فازداد الألم على ألم..

أيها الحضور الكريم!

كثيرة هي الذكريات مع الصديق الغالي كمال. رغم أن أغلبها كانت تتم في دمشق أو عبر الهاتف. ومرتان فقط استطعت استضافته في اللاذقية خلال الصيفين الماضيين. ولن أطيل عليكم في استذكارها كلهاً وسأكتفي باقتطاف بعضها:

تصدف أحياناً زيارتي لدمشق قبل صدور العدد من جريدة قاسيون بيوم أو اثنين. كان أبو بحر خلالها يستقبلني بعبارات الودّ والحفاوة كالعادة. إلا أنها مشفوعةً بعبارات الاعتذار عن انشغاله وعدم تمكنه من القيام بواجب الضيافة.  ويقول لي باسماً: أنا اليوم كامرأةٍ في حالة مخاض على وشك الوضع. فلا تؤاخذني على تقصيري في استقبالك.

وبالفعل أيها الأخوة كنت أرى البُشْرَ يكلل وجهه التعب بعد خروج العدد من الجريدة إلى النور، كأمّ أنجبت طفلها الأول بعد دهرٍ من العقم..

وما كان يحيّرني هو أنه لم يكن يتفرغ لكتابة زاويته (تصبحون على وطن) إلا قبل إغلاق مواد العدد من الجريدة ربما بساعة! فكان ينزوي جانباً ويبدأ بكتابتها. وعندما كنت أسأله كيف تستطيع كتابة زاوية بمثل هذه الأهمية لاسيما وأنها في الصفحة الأخيرة. مما يعني أنها تكلف صاحبها مسؤولية جسيمة.. كان يقول لي إنها مختمرة في ذهني ويكفي أن يتاح لي الوقت لسكبها على الورق.!

أية ثقة هذه ؟ إنها بالفعل أيها الأخوة ملكة المبدع الصحفي الحقيقي.

وأذكر مرة كنت أناقشه في فكرة وحدة الشيوعيين السوريين وسألته وقتها: هل تعتقد بجدوى هذا المساعي والمحاولات التي تبذلونها في تحقيق هذا الهدف يا كمال؟ أجاب بهدوء وبثقة الأنبياء: إن أعظم إنجازات البشرية بدأت بحلم جميل. ثم أليست وحدة الشيوعيين هدفاً نبيلاً؟ يكفي ذلك..

وأذكر مرة كنا ساهرين على السطح في بيتنا وكانت السماء مغسولة بضوء القمر. كنت أحدّث أبا بحر عن صديقٍ لي توفي بمرضٍ عضال، وبكيت.. فما كان منه إلا وسارع لضمّي إلى صدره وهو يمسح دموعي قائلاً: هل ستبكي عليّ هكذا إذا متّ؟ إياك يا صديقي.. أجبته: المشكلة يا كمال أن القدر ينتقم مني دائماً بانتزاع أجمل ما أملك في الحياة... إنه يخطف كل شخصٍ أحبه! ابتسم والدمعة في عينيه وقال مواسياً: المهم ألا يخطفك قبلي، فأنا ضعيف جداً في حضرة الموت..

ليتني ما أحببتك يا كمال! فقد صدق حدْسي..

وفي آخر لقاءٍ لنا في اللاذقية، كنا نتحدث عن جريدة قاسيون وما لها وما عليها من مآخذ، أذكر في ذلك اليوم كيف كان لديه قلق المحبّ ولهفته على ضرورة البدء في تطويرها. حيث أفضى بما لديه من اقتراحات وختم قائلاً: ما يؤرقني يا صديقي أنني غدوت موظفاً لدى قاسيون. ولا يمكنني الرضوخ إلى هذه النتيجة وسأسعى جاهداً لعقد ندوة خاصة وإجراء استبيان عام على القرّاء لتصبح هذه الجريدة على مستوى الجرائد الكبرى المشهورة في العالم.

أيها الأخوة! يصعب عليّ سرد جميع خصال هذا الإنسان النادر. ولا يسعني كغيري من رفاقه وأصدقائه إلا معاهدته على إكمال مسيرته النضالية من بعده وأقول له:

يا لخجلنا منك يا أبا بحر! كلنا يدرك الثمن الباهظ الذي سددته من أعصابك وروحك وعلاقاتك العائلية والاجتماعية، عندما قررت الزواج من طائفة أخرى واخترتَ الأخت العزيزة (نوار) رفيقة دربك. أقول يا لخجلنا لأننا لم نطرح موضوع الزواج المدني وحتى الاختياري منه في برامج جميع أحزابنا ومشتقاتها.. ولم يجرؤ أي حزبٍ حتى الآن على تبنّي العلمانية الصريحة والمطالبة بفصل الدين عن الدولة وعن المدرسة.. وأعتقد جازماً بأنك لو بقيت حياً وسمعت بمقتل شهيدة الحب (هدى أبو عسلي) لتحدثت عن هذا الموضوع بمنتهى الجرأة في زاويتك الشهيرة (تصبحون على وطن) كما عهدناك..      

أيها الأخوة!

بعض الشعوب تعتقد بأن الروح تبقى سابحة في الفضاء إلى أن تلتقي مع من تحبّ، وإلى أن نلتقي يا كمال! لك مني ومن كل رفاقك وأصدقائك، كل التحية والوفاء والمحبة. وأقول لك:

أيها الحبيب! رغم إقراري الصريح بثخن الجراح وعوسجة المدى، إلا أن الحياة كما الطبيعة لا تتزيّا بلونٍ واحد؛ من هنا أغتبط فرحاً - أحياناً - بالمستقبل، وأزعم أن سحاباتٍ من الورد سوف تخيّم في سمائنا طال الزمن أم قصر..

 

■ ضيا اسكندر – اللاذقية