ماهر فرج ماهر فرج

معالم دمشق الأثرية.. هوية في مهب الفساد! المقبرة القاهرية بقرونها السبعة لا تجد من يحميها

تعتبر منطقة الشيخ محي الدين من المناطق الأثرية المهمة التي تثبت عراقة مدينة دمشق التاريخية، لما تحتويه من أثار ترجع إلى عام (860 م)، ومن كنوز هذه المنطقة المقبرة القاهرية، والتي تعتبر مرقداً لعدد من أفراد أسرة «القائد صلاح الدين الأيوبي»، إضافة إلى «الناعورة الجزرية» والمعروفة بناعورة الشيخ محي الدين بن عربي لوقوعها ضمن أراضي المسجد الذي يضم رفاته، وكانت هذه النافورة تستخدم لري بساتين منطقة الصالحية عبر رفع المياه من نهر يزيد، إضافة إلى عدة معالم أثرية أخرى..

وضمن هذه الفسيفساء التاريخية، تجد أهالي المنطقة يقولون إن المحافظة ثابرت خلال تاريخها على إزالة العديد من المعالم الأثرية، كمسجد الشيخ أمين التكريتي الأثري الذي أزيل أكثر من ثلثيه، بما يحتويه من أعمدة حجرية أثرية تم هدمها أو ترحيلها، بعد أن وهبه أبناء الشيخ (أمين التكريتي) في ثمانينيات القرن الماضي لوزارة الأوقاف، لتبيعها بعد ذلك لتاجر من عائلة الطباع، وتم بناء محضر مكون من 11 طابقاً في المكان عام 2007 باسم (المقسم رقم 3)، فكيف سمحت المحافظة ببناء هذا المحضر في موقع أثري؟ تاريخ سلوك المحافظة مع هذه المعالم هو ما يدفع أهالي المنطقة للقلق من تكرار الأمر نفسه مع المقبرة القاهرية، خصوصا بعد أن استلم أصحاب المنازل والمحلات الملاصقة لها عام 2009 إنذاراً بالإخلاء بحجة إزالة ما يسمى بـ«الإشغالات» من منطقة سوق الجمعة بهدف التنظيم، كما علم أهالي العقارات المنذرة، والملاصقة للمقبرة القاهرية من جهاتها الأربع، أنه سيتم بناء محضر سكني بجانبها سيعتدي على جزء كبير من حرم المقبرة، وذلك رغم علم المحافظة بأن منطقة المقبرة وما يحيط بها هي منطقة أثرية، وبأن ما قد يكون موجوداً تحتها يندرج تحت اسم «آثار» وهي إرث الشعوب التي لا يجوز البناء حولها أو هدم أي جزء منها أو ترميمها أسوة بآثار مدينة دمشق القديمة!.

بعد دراسة أعدتها، لم تقبل مديرية الآثار بإقامة البناء المزمع تشييده أو بالمساحة التي قد تترك كحرم للأضرحة في بادئ الأمر، وحصل ذلك بعد لجوء أهالي العقارات المنذرة إليها والذين أوضحوا للمديرية احتمال وجود «لقى أثرية» تحت المحال والعقارات المزمع هدمها.

فوفقاً لإفادة أحد كبار السن القاطن في المنطقة منذ ولادته، فقد تأكد لقاضي محكمة القضاء الإداري في عام 2009 وجود غطاء حجري قرب الأضرحة في المقبرة القاهرية يؤدي إلى سراديب داخلية تحت الأضرحة، فيها أقواس مقنطرة أثرية. وأوضح الرجل المسن للقاضي مكان الغطاء الحجري بشكل لا يقبل التأويل، الأمر الذي أكده الرجل لـ«قاسيون» إذ كان لعائلته حصة في المنزل المحيط بالمقبرة.

وعندما كشف الرجل عن مكان وجود غطاء حجري، قال: «إن هذا الغطاء الموجود بجانب أحد الضريحين، يوصل إلى سرداب أثري طويل تحت المنطقة المحيطة بالمقبرة القاهرية، وتم بناء مطبخ فوقه عندما تم تأجير المقبرة كبناء سكني في فترة ماضية لضيفة أردنية». وأضاف: «كان والدي يخبرنا عن أهمية هذه السراديب في فترة الاحتلال الفرنسي لسورية، حيث كان الثوار يختفون بمجرد دخولهم إلى المقبرة القاهرية، طبعاً عبر السراديب التي كانت الملاذ الوحيد لفرار الثوار من  قوات الاحتلال الفرنسي، ما يؤكد أن هذه السراديب الطويلة لها مخارج في مكان ما من المنطقة».

ويختم الرجل المسن موضحاً لـ«قاسيون» أن عائلته من العائلات التي تضررت من قرار الإخلاء، فقد «اضطررنا لبيع حصتنا بمبلغ أقل بكثير من سعرها الحقيقي والمقدر بعدة ملايين للتجار الذين حصلوا من المحافظة على إذن الهدم والبناء في هذه المنطقة». 

المحافظة ترفض قرار القضاء

صدر في عام 2009  قرار قضائي من محكمة القضاء الإداري بدمشق، يقضي بوقف تنفيذ الإزالة والبناء في هذه المنطقة، وأرسل القرار لمحافظة دمشق إلا أن المحافظة طالبت بإلغاء القرار حينها، وجرت عدة مراسلات بوقف التنفيذ، لكن المحافظة أصرت على تنفيذ مشروعها وعدم الالتزام بالقرار القضائي وباشرت بهدم أجزاء من المنازل المحيطة بالمقبرة، على أن يستكمل الهدم بعد عيد الفطر القادم. وبعد ذلك تم تشكيل لجنة من أعضاء المحافظة ومديرية الآثار وقاض من مجلس الدولة، فلم يسمح للجنة بالدخول للمقبرة القاهرية عندما توجهت لرؤية المكان ومعاينته، ولم تخرج هذه اللجنة بأية دراسة حول الموضوع حتى الآن، الأمر الذي أجبر أصحاب المحال والمنازل المتضررة على الدخول في دوامة الروتين المعروفة، حيث تقدموا بكل الوثائق والصور والإثباتات إلى وزارة الثقافة التي أحالت الموضوع بدورها إلى مديرية الآثار، والتي حولت الموضوع بدورها أيضاً إلى مديرية دمشق القديمة فلم تخرج هذه الأخيرة بأي قرار لحماية الآثار أو الكشف عما يحتويه السرداب الأثري المذكور؟!

بداية المشكلة

ترجع المشكلة إلى قرار التنظيم الصادر في عام 1973 والذي أقر عام 2002، إذ لم يلحظ وجود المقبرة القاهرية باعتبارها معلماً أثرياً، ثم أوقف ومنع استمرار تنفيذ التنظيم لأن المخطط التنظيمي أهمل حينها المقبرة، وبحسب تصريح صحفي لخبير في الآثار  كان التنظيم يومها تعدى على أكثر من نصف المقبرة القاهرية، رغم أن مديرية الآثار والمتاحف طالبت المحافظة بإزالة التعدي والحصول على وجيبة لحماية الآثار إضافة إلى المتر الممنوح كحرم للمقبرة.

كل ذلك تم مع العلم بأن البناء الموجود فيه يعتبر أثرياً، حيث زارت «قاسيون» الموقع واطلعت على الجدار الوحيد المتبقي من سور المقبرة والتي تثبت أحجاره والشاهدة الموجودة على أحد أبوابه معالمه الأثرية، وكانت مديرية الآثار وجهت عدة كتب للمحافظة وصولاً إلى رئاسة الحكومة، إلا أن كل محاولاتها باءت بالفشل قبل أن يتلاشى اهتمامها بهذا الموضوع نهائياً وبشكل مفاجئ، ويختفي صوت عدد من المهندسين التابعين لمديرية الآثار والمتاحف الذين كانوا يؤكدون على أهمية هذا المعلم الأثري وعلى ضرورة وقف تنفيذ المشروع.

ورغم كل المحاولات التي قام بها المتضررون من قرار الإخلاء، لم تتخذ الجهات المعنية أي إجراء لحماية المقبرة القاهرية الأثرية ولا حتى التأكد مما إذا كان السرداب الأثري موجوداً حقا. 

مستفيدون ومتضررون من التنظيم

إن مشكلة هذه المنطقة لا تقتصر على ما تواجهه المقبرة القاهرية من إهمال لأهميتها الأثرية وتعدٍّ على حرمة الأضرحة الموجودة فيها، بل تتجاوزها لتتضمن الاعتداء على حقوق أهالي المنطقة الذين أجبروا على بيع الأسهم التي منحتهم إياها المحافظة كتعويض عن هدم منازلهم بأسعار بخسة للتجار الذين سمحت لهم المحافظة ببناء مشاريعهم في هذا المكان الأثري، والذين مارسوا أساليب غير شرعية لشراء الأسهم من أصحابها، من خلال نشر الإشاعات الكاذبة بحسب قول أصحاب المنازل المنذرة، إلا أن أصحاب المحال التجارية هم أكثر المتضررين، فقانون الاستملاك يتيح للدولة استملاك أي عقار تجاري في حال الضرورة، دون تعويض أصحابه، حيث أن هناك عدداً من المحلات أنذر أصحابها بالإخلاء دون أن يحصلوا على أي تعويض مادي، وهم بذلك يفقدون مصدر رزقهم.

أحد أصحاب المحلات المنذرة (طلب عدم  ذكر اسمه خوفا من المستفيدين)، قال: «أنا أحد الأشخاص الذين وجه لهم إنذار بإخلاء محلاتهم التجارية التي تعتبر مصدر رزقنا الوحيد، و نحن بهذا القرار سنصبح عاطلين عن العمل، والمحافظة لن تعوضنا عن استملاك محلاتنا التي ورثناها عن أجدادنا، وليس بأيدينا أية صنعة أخرى لكسب قوت يومنا، وبغض النظر عن الضرر الذي سيصيبنا، كيف تسمح المحافظة ومديرية الآثار والمتاحف بتغيير معالم هذه المنطقة الأثرية؟ وكيف تسمح بالتعدي على حرمة المقبرة القاهرية التي تعتبر أحد المعالم الأثرية المهمة في تاريخ دمشق؟». 

أما المستفيدون فهم التجار ينتمون إلى هذه المنطقة و هم على علم بتاريخها وأهميتها الأثرية، ورغم ذلك يصرون على الاستمرار في مشاريعهم حتى لو كان ذلك على حساب أثار المنطقة، و حقوق أهلها، كما يصرون على إخفاء ما لم يتم الكشف عنه تحت الغطاء الحجري، لإخفاء شيء قد يكون حدث في الخفاء.

يتساءل الأهالي: لماذا صرفت مديرية الآثار والمتاحف النظر عن هذا المعلم الأثري، وتراجعت عن موقفها الذي اتخذته في بادئ الأمر.. رغم معرفتها بأهمية هذا الموقع  الأثري، وبأهمية ما هو موجود تحت الغطاء الحجري؟.. ومن المستفيد من إخفاء مكان الغطاء الحجري والوقوف في وجه أية محاولة تسعي لاكتشاف ما هو موجود تحت هذا الغطاء، ولماذا؟ هل سيؤدي رفع الغطاء الحجري لكشف شيء ما يحاول المستفيدون إخفاءه، خصوصاً إذا ما علمنا بوجود عائلات محدثة الثراء، كانت بالأمس القريب تصنف ضمن العائلات الفقيرة؟ فهل السبب أن منازلهم كانت مجاورة للمقبرة القاهرية، ولا يفصلهم عن ما هو موجود داخلها سوى باب، يتيح لهم الدخول والخروج دون أن يراهم أحد بحسب اعتقاد الأهالي المتضررين؟!.

ويضيف الأهالي: من هي الجهة الرسمية الداعمة لهؤلاء المستفيدين من قرار الإخلاء، والتي تعطيهم القدرة على منع المعنيين في مديرية الآثار والمتاحف عن الكشف عما هو مستور تحت الغطاء الحجري، وتمنحهم القوة لتهديد من يحاول فتح فمه لحماية أثار هذه المنطقة، والدفاع عن حقوقه المسلوبة بـ«قص لسانه»؟ هذا التهديد الذي أورد المتضررون من قرار الإخلاء في كتاب رسمي وجه لإحدى الجهات الرسمية دون أن تتخذ أي إجراء قانوني.

وكيف استطاع المستفيدون ومن يدعمهم في المحافظة تجاوز قرار القضاء الصادر من محكمة القضاء الإداري في دمشق عام 2009، والذي ينص على إيقاف تنفيذ المشروع المزمع تشييده قرب المقبرة القاهرية؟. وهل لأموال هؤلاء المستفيدين كل هذه القوة داخل لدوائرنا الرسمية؟!.

كلها تساؤلات مشروعة لمعرفة ما إذا كان رأس المال يخضع للقانون أم العكس.. فهل من مجيب؟!

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.