إن كنت تدري.. فالمصيبة أعظم!
سكان دمشق يعرفون ما يسمى بـ «سوق الحرامية»، وهو سوق قديم كائن بالقرب من شارع الثورة، وقد سمي بهذا الاسم ليس لأن البضائع فيه مصدرها السرقات، ولكن كون عمليات التبادل فيه قائمة على استغلال حاجات الناس من المواطنين، سواء كانوا بائعين أو مشترين، عبر مقص سعري يستفيد منه التجار والباعة الموجودين في السوق بنهاية الأمر.
أسواق «التعفيش» والسرقة
أسواق المسروقات الموجودة حالياً تختلف من حيث الجوهر عن «سوق الحرامية» ذاك، فهي أسواق تتعامل مع البضائع المسروقة و»المعفشة» من بيوت من تهجروا ونزحوا قسراً عن بيوتهم ومدنهم وقراهم، بفعل الحرب والأزمة والدمار، كما أن روادها من المشترين هم بغالبيتهم من هؤلاء، بالإضافة إلى أن بعض العاملين بهذه الأسواق من الباعة هم كذلك أيضاً.
المختلف الآخر هو أن الموردين الأساسيين للبضائع في هذه الأسواق هم «المعفشين» والناهبين للبيوت، حيث تأتي سيارات محملة، كبيرة أو صغيرة، لتباع حمولتها على حالها من قبل هؤلاء، عبر نموذج المزاد، أو عبر العرض والطب، بينهم وبين باعة السوق، وأحيانا تتم هذه العملية خارج الأسواق، ومؤخراً أصبح هؤلاء «المعفشون» يتعاملون مع بعض الباعة بعينهم، وذلك لطول مدة هذا التعامل، التي أصبحت تقارب الست سنوات حتى الآن، باستثناء حالات نادرة لتوريد البضائع بالمفرق وبالقطعة، وأحياناً حسب الطلب!.
مصدر رزق وإعالة
في ضواحي دمشق، كغيرها من المدن الأخرى، هناك الكثير من الأسواق التي تتعامل بالبضائع «المعفشة» والمسروقة، وهي أسواق أصبحت تعيل جزءاً هاماً من العاملين فيها وأسرهم، بين باعة وعتالة وسائقي سيارات النقل وغيرهم، ويرتادها الكثير من المواطنين الباحثين عن بعض الاحتياجات الضرورية لاستمرار حياتهم، ففي هذه الأسواق تجد كل ما يمكن أن تحتاجه من أثاث منزلي وأدوات مطبخ وكهربائيات وسجاد، وحتى الخرداوات والأدوات الصحية، وترى المواطنين الباحثين عن مستلزماتهم يجولون على البضائع المعروضة بحثاً عن الأفضل والأرخص، كون مثيلاتها في السوق، إن كان جديداً أو مستعملاً، يفوقها بالسعر، علماً أن هذا الفارق السعري بدأ بالانخفاض باعتبار أن «المعفشين» والعاملين بهذه الأسواق أصبحت لديهم المعرفة الكافية بالتقييم، من حيث النوع والجودة والسعر، بعد سني الخبرة المتراكمة.
شبكة متكاملة من الخدمات
بعض الباعة في هذه الأسواق يعرضون على الشاري نقل مشترياته إلى مكان إقامته بإضافة مبلغ معين على السعر المتفق عليه، وتحديداً للأدوات الكهربائية أو الفرش المنزلي، وذلك تفادياً لأليات التعامل مع الحواجز المنتشرة داخل المدينة وعلى أطرافها، وحتى بين المدن أحياناً، ما يشير إلى وجود سلسلة عمل باتت شبه متكاملة، على مستوى الاستفادة القصوى من هذه البضائع المسروقة و»المعفشة»، وآليات عبورها ومرورها وتبادلها بيعاً وشراءً وتسويقاً ونقلاً.
غياب الدولة أس والمعفشين أس آخر
الحديث عن الجانب الأخلاقي من هذه الظاهرة، على مستوى الشارين من المواطنين، أو الباعة الموجودين في هذه الأسواق، هو من باب ذر الرماد بالعيون، على الرغم من أهميته على مستوى دراسة هذه الظاهرة وانتشارها المطرد بهذا الشكل، ولكن أس المشكلة ليس بسوء أخلاق هؤلاء أو حسنها فقط، بل أس الظاهرة هو بالسارقين و»المعفشين» أنفسهم، الذين لا تعنيهم التقييمات الأخلاقية لعملهم، بل جل ما يهمهم هو مقدار ما يجنوه من هذه البضائع، وهي بجلّها أرباح صافية، باعتبار ألا رأسمال موظف أو مستثمر بها بالأصل، حيث كان هذا السائد في بادئ الأمر، قبل أن تستكمل شبكة المستفيدين.
والأس الآخر الأكثر أهمية هو هذا الغياب الرسمي المتعمد عن هذه الظاهرة واستفحالها، ونتائجها على مستوى البنية المجتمعية، خاصة وأن هذه الأسواق تجمع ما بين السارق و»المعفش» من طرف، والمسروقين من المواطنين النازحين والمهجرين قسراً من طرف آخر، بعلاقة يبدو فيها دور الوسيط، الذي هو البائع، دوراً مشبوهاً بنظر المشتري، وكلاهما تجاوز حالة تأنيب الضمير، بجذره الأخلاقي، تحت ضغط الحاجة، وعدم توفر البدائل، لا على مستوى فرض العمل ومصادر الدخل، ولا على مستوى البضائع الرخيصة.
مصالح ورعاة
من الجلي أن غياب الدولة عن هذه الظاهرة، وغض نظرها عنها، على الرغم من أدواتها وأجهزتها كلها القادرة على وضع حد لها، إن لم نقل ردعها، هو ما شجع على استمرارها وانتشارها، واستكمال سلسلة الاستفادة منها، حتى أصبحت تعمل بها شبكات برساميل كبيرة، وأدوات وآليات ورُعاة وحُماة، وقد أصبح من مصلحة هؤلاء، كشبكة عمل، زيادة التفريغ السكاني من أجل السرقة و»التعفيش»، بغض النظر عن الأساليب والأدوات، أو النتائج المباشرة وغير المباشرة، أو الفاعلين المباشرين بهذا التفريغ القسري، ولأية جهة كان ولاؤهم وتبعيتهم.
بل تجاوز الأمر ذلك وأصبح لهؤلاء أحياناً أدوات تفتعل الأحداث والتهويل من أجل التفريغ السكاني والتهجير، وعلى ذلك أمثلة كثيرة، حيث يتم التهويل على الأهالي من أجل النزوح من بيوتهم، وفي الوقت نفسه يقوم هؤلاء «المعفشون» بعملهم على مرأى من الأهالي وتحت أنظار القائمين على أمن المنطقة رسمياً بالكثير من الأحيان.
باب مزاودة واستثمار
ظاهرة «التعفيش» والسرقة، والأسواق التي وجدت على هامشها ولها، وتكرست لاحقاً من أجلها، تداعياتها تجاوزت موضوع غياب الدولة وغض النظر عنها وعن نتائجها وتبعاتها المباشرة، كما تجاوزت موضوع استكمال شبكة العاملين بها والمستفيدين منها وترابطهم، إلى مدى أبعد من ذلك بكثير، فقد أصبحت باباً للاستثمار السياسي والمزاودة، بين الأطراف المتنازعة كلها وعلى المستويات كافة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلك التعبئة والتحريض ذات البعد الطائفي المباشر بالكثير من الأحيان.
ومن المستغرب، بعد ذلك كله، استمرار هذا التعامي الرسمي عن هذه الظاهرة، بعد أن أخذت هذه الأبعاد والتداعيات والنتائج كلها!.
سياسة الإفقار سبب كل علة
من دون إطالة، سياسة الإفقار التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة، مع تداعيات الحرب والأزمة، كان من نتائجها تأمين الأرضية للكثير من الظواهر السلبية، وظاهرة «التعفيش» والسرقة أحدها، ومن واجب الدولة، افتراضاً، أن تقوم بمهمة تأمين مصادر دخل مشروعة للمواطنين من أجل العيش بكرامة، كما من واجبها ردع كل ما هو شاذ ومخالف، بالإضافة إلى واجباتها تجاه حماية ممتلكات المواطنين وضمان أمنهم، وهو ما كان مغيباً طيلة سنوات الحرب والأزمة، وبحجتها!.
كما أن النموذج الأخلاقي الذي يسود أي مجتمع، ما هو إلا انعكاس حقيقي ومباشر لأخلاقيات الطبقة السائدة فيه والمستفيدة منه، وبالتالي فإن كل حديث عن سوء أخلاق على المستوى الفردي، بعيداً عن مثال «التعفيش» الذي لم يعد ينطبق عليه هذا الحال، باعتباره خرج عن حيز الفردانية ودخل حيز الظاهرة، ما هو إلا لتغييب الحديث على مستوى سوء أخلاق هؤلاء المستفيدين والمستغلين الكبار، الذين يحصدون ريع الاستثمار الظواهر كلها، الايجابي منها أو السلبي، حسب الحال، مع الأخذ بعين الاعتبار أهمية الأخلاق على المستوى الفردي وآليات تكريسها المجتمعية، والتي بدورها تصبح نابذة لكل سلوك فردي شاذ أو خارج حدود الأخلاق العامة، يساعدها في ذلك جملة من القوانين والأجهزة الرادعة.
الحرب ذريعة ومصلحة
لنعود مرة أخرى إلى أن غياب دور أجهزة الدولة ليس نتاج عدم تمكن هذه الأجهزة من القيام بواجباتها، بل هو نتاج لمصلحة القائمين عليها والمستفيدين منها، ومن انتشار هذه الظاهرة أو غيرها، وبالتالي يمكن أن نقول بكل وضوح: «إن كنت لا تدري فتلك مصيبة، وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم!».
فما بالنا بأن بعض المتنفذين بأجهزة الدولة، والمستفيدين منها ومن سياساتها، والمتمثلين بكبار التجار والمستوردين وتجار الحرب والأزمة والفاسدين بأجهزة السلطة والمستفيدين، الصغار والكبار، من هذه السياسات ومن تداعيات الحرب والأزمة، مع ترابطهم وتشابك مصالحهم، داخلاً وخارجاً، هم فاعلون حقيقيون ومباشرون على انتشار هكذا ظواهر وتعميقها، وما زالوا يتذرعون بالحرب والأزمة زوراً وبهتاناً، وهم من المستفيدين منها ومن نتائجها وتبعاتها، كما من استمرارها.