كيف أصبحت شيوعياً...

ضيفنا اليوم شيوعي قديم، تمرّد على (مقولة) الشاعر زهير بن أبي  سلمى:  سئمت تكاليف الحياة ومن يعش   ثمانين حولا لا أبا لك يسأم  

لم يسأم تكاليف الحياة، وما زال حتى اليوم في صفوف الحزب، يملأ صدره أمل كبير وثقة أكيدة بغد أفضل وأجمل،  تصنعه الشعوب بنضالها وتضحياتها بادرناه  قائلين :
- الرفيق يوسف قرقجي أبو راشد.. نحييك ونسألك: كيف أصبحت شيوعيا؟
- أنا من مواليد دمشق عام 1927 ومن عائلة شعبية معيلها والدي الذي كان يعمل  ناطورا لعدد من بساتين الصالحية الممتدة قرب سفح جبل قاسيون الأشم، ويساعده في النطارة عمي (أبو عناد)، وذكرت اسمه لأن له (دوره) في تركي للمدرسة وأنا في نهاية المرحلة الابتدائية وكنت من الطلاب المجتهدين، فقد خاف عليّ من أن أصاب بمثل ما أصيب به أحد طلاب الحارة المجتهدين (خلل بدماغه لشدة اجتهاده وكثرة دراسته...!!!) والعجيب الغريب أنه أقنع أبي (بتخوفه هذا) فأخرجني من المدرسة ودفعني وأنا في الثانية عشرة من عمري إلى العمل عند حلاق قرب بيتنا ثم لدى حلاق آخر بزقاق رامي قرب ساحة المرجة، وبعد عام قتل أبي في صدام مع لصوص كانوا يسطون على البساتين، ومن يومها حملت أعباء العائلة على أكتافي. في تلك الفترة سادت الروح الوطنية بشكل عارم، وألهبت حماس الشعب كله حتى الصغار، وأعتز بأنني شاركت وقتها في عدة مظاهرات ضد المحتلين الفرنسيين، وملأت جيوبي بالحجارة مثل الآخرين لنرميها على جنود الاحتلال، ومن الذكريات الطريفة التي أذكرها ما حدث أثناء إحدى المظاهرات وذلك في ساحة المرجة عام 1944 حيث لم يبق في الأيدي حجارة، فأسرعنا إلى مدخل سوق العتيق لنحمل ما قدرنا عليه (من كومة كبيرة من حبات الكمة) أمام أحد محلات بيع الخضروات لنقذفها في وجوه الجنود الذين يلاحقون المتظاهرين.
بعد أن أتقنت المهنة عام 1946فتحت صالون حلاقة في حارتنا بمبلغ مائة ليرة كنت قد ادخرتها خلال تلك السنوات، وفي هذا الصالون بدأت معرفتي بالحزب، فقد كان معلم شيوعي شاب يتردد على محلي هو الرفيق سعيد ميرخان (أبو رفيق) الذي عرفني بالشيوعية، وبذلك أسهم في تفتح وتنمية وعيي السياسي، ولشد ما كانت فرحتي غامرة حين استوعبت معنى الصراع الطبقي الذي كان حجر الأساس في اقتناعي بأن نضال الشعوب لابد أن ينتصر وخاصة أنني كنت أحس بالظلم الاجتماعي ..بالفقر والحرمان وأرى بالعين واقع عشرات الشباب العاطلين عن العمل وظروفهم المعيشية الصعبة، ويوم قرأت رواية الأم لمكسيم غوركي ازددت يقينا بانتصار البشرية على قوى الحرب والنهب والاستغلال.
 بقيت صلتي بالحزب فردية وسرية عن طريق الرفيق سعيد، ومن المهام التي نفذتها بمنتهى السرية تأمين إيواء عدد من الرفاق الملاحقين ومنهم الشاعر الكبير الرفيق «جكر خوين» الذي بقي في بيتي لمدة ثلاثة أشهر، كذلك تأمين مبيت الرفاق القادمين من المحافظات للمشاركة في المظاهرات خصوصا في زمن الدكتاتوريات العسكرية بين عامي 1949و1954، كما ساعدت الرفيق سعيد ببعض المهمات الحزبية في القرى المحيطة بمدينة دمشق (إيصال نشرات وصحف ورسائل) وذلك على الدراجات التي كثيرا ما تعرضت عجلاتها للثقوب، و كنا نصلحها عند الرفيق عبد الجليل رشواني، وحين نريد إعطاءه أجرتها يقول «خلوها تبرع للحزب». هذا الرفيق الشجاع يعرفه كل أبناء الحي فقد كان في طليعة كل المظاهرات الوطنية والمطلبية، وهو من يحمل الطبل ويقرعه ليتجمع الناس للتظاهر، ومن أشهر المظاهرات مظاهرة الاحتجاج على رفع سعر الخبز من25 قرشا إلى 27 قرشا التي أجبرت الحكومة على التراجع، وليذيع الراديو في اليوم ذاته خبر إعادة السعر إلى ما كان عليه. وفي عام 1955 انتظمت في إحدى فرق الحزب وصرت أعمل علنا في تنفيذ المهمات الحزبية كالمشاركة في حملة جمع التواقيع على العرائض المطلبية والسياسية ومنها  المطالبة بتحريم الأسلحة الذرية، كما كلفت مع رفاق آخرين بحماية الأمين العام للحزب الرفيق خالد بكداش طيلة سنوات عمله عضوا في مجلس النواب..
لابد لي من أن أنوه بالدور الهام  للمعلمين الشيوعيين في الحي أمثال عبد المجيد قاسو وعبد الرحيم الأيوبي وعبد الكريم محلمي وعادل الملا وعدنان جلو ويوسف شيخو وصلاح زلفو ومحمد محسن أيوبي وغيرهم.. وأن أعبر عن عظيم الامتنان والاحترام  لكل من وضع لبنة في صرح الحزب... للشهداء.. وللرواد الأوائل.. لعشرات آلاف الرفاق الذين تحملوا عبء النضال الوطني والطبقي الصادق، وذاقوا مرارة الملاحقة والسجن والتعذيب، ولا أنسى أن أشيد بالوقوف المشرف لأمهاتنا وأخواتنا إلى جانبنا في أصعب الظروف وأقساها، وهذه سمة عامة لأكثر عائلات الرفاق، فأهلنا وشعبنا هم السياج والحصن والعون والعزم الذي به نتابع نضالنا المشروع لخير وعزة ومنعة وطننا ولكرامة وسعادة شعبنا.