نجوان عيسى نجوان عيسى

جرائم الشرف.. قتل وحشي ومتعمد تحت حماية القانون

يضيق مفهوم الشرف في هذا المجتمع المدفوع للغرق في الجهل والتخلف ويتحول من خط فاصل بين الإنسانية والتوحش إلى وسيلة لإثبات الذكورة وتكريس الهمجية، لتكون النتيجة: فتيات يذبحن وهن في ريعان الصبا، لاتملك الواحدة منهن الحق حتى في أمنية أخيرة.. أحكام إعدام تصدر دون محاكمة أو حتى تفكير، والحجة الدفاع عن الشرف، حتى ولو كان أقصى ما فعلته الضحية هو الخروج من منزلها دون إذن ذويها!

المؤسف في كل ذلك أن نصوص القانون، ثم التطبيق السيئ لها، يشكلان معا الغطاء المزدوج لكل هذه الجرائم البشعة، فنصوص القوانين العربية كلها تعفي أو تخفف جدا من عقوبة من يرتكب جريمة بدافع الشرف بما فيها قانون العقوبات السوري، ففي المادة  (548) منه يقول:

-1 يستفيد من العذر المحل من فاجأ زوجته أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في جرم الزنا المشهود أو في صلات جنسية فحشاء مع شخص آخر فأقدم على قتلهما أو إيذائهما أو على قتل  أو إيذاء أحدهما بغير عمد.
 -2 يستفيد مرتكب القتل أو الأذى من العذر المخفف إذا فاجأ زوجته أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في حالة مريبة مع آخر.

إن هذه القاعدة القانونية تحد جدا من نطاق تطبيق العذر المحل أو المخفف لأنها تشترط المفاجأة وعدم العمد، أي أن مرتكب الجريمة يجب أن يفاجأ بوجود قريبته مع شخص آخر وألا يكون عالما مسبقا بوجودهما، وألا يكون ذاهبا بقصد ارتكاب الجريمة، ولكن إثبات عدم العلم المسبق أمر عسير، وغالبا ما يستند القضاة إلى أقوال مرتكب الجريمة نفسه! ولأن مجتمعاتنا ذكورية فإن الأسر غالبا ما تدافع عن مرتكب الجريمة، وتشهد معه أمام القضاء لأنه (حامي شرف الأسرة والمدافع عن عرضها)، ولأن القضاة أبناء هذه المجتمعات، فإنهم يميلون غالبا إلى الحكم بأن عنصر المفاجأة موجود ويمنحون القاتل العذر المحل أو المخفف.
والسؤال الكبير هنا: استنادا إلى أي نص يعفى قاتل أخته التي تزوجت دون موافقة أهلها، واستنادا إلى أي نص يستفيد من عذر مخفف من قتل ابنته لأنها تأخرت ليلا عن المنزل؟
لنسلم جدلا بأن هذه المادة تطبق تطبيقا صحيحاً، فكيف يكون قتل شخصين وتحت أي ذريعة عملا لا يعاقب عليه، وما هو المصدر الحقيقي لهذه المادة القانونية؟
إن قانون العقوبات السوري مأخوذ عن قانون العقوبات اللبناني المأخوذ بدوره عن قانون العقوبات الفرنسي (الذي وضع في العام 1810)، وفي قانون العقوبات الفرنسي كان يوجد نص مشابه، ولكنه لا يعطي عذرا محلا بل عذرا مخففا، وقد ألغيت هذه المادة من القانون الفرنسي منذ عقود طويلة.
إذا فالأصل المادي لهذه القاعدة هو القانون الفرنسي، ولكن من أين جاء التعديل لهذه المادة بتحويل العذر من مخفف إلى محل؟
إن القانون هو حصيلة ثقافة وأخلاقية المجتمع وكيفية تقديره ومعرفته لمفهوم الحق،  وبالنسبة لمجتمعنا فإن الهيكلية الأساسية للقانون أخذت عن فرنسا بعد إسقاط ما يخالف روحية المجتمع والنظام العام فيه، ثم الإضافة والتعديل بما يلائم هذه الروحية، وقد نص القانون المدني في مادته الأولى على أن المصدر الثاني للقانون بعد التشريع، هو الشريعة الإسلامية، والثالث هو العرف، والرابع هو مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة، وبالتالي فإما أن يكون مصدر هذه المادة الشريعة الإسلامية أو العرف أو مراعاة ثورة الغضب الناتجة عن الاعتداء على الشرف المتجذر في نفسيتنا الشرقية، ومراعاة هذا الغضب المبرر مستمدة من قواعد العدالة.
وليس لهذه المادة أي أصل في الشريعة الإسلامية، بل على العكس من ذلك فالاتهام بجرم الزنا دون أربعة شهود هو بحد ذاته جرم يعاقب عليه باتفاق المذاهب الإسلامية مجتمعة، فكيف سيكون موقف الإسلام من القتل بحجة الزنا دون أي شاهد، كما أن عقوبة الزنا لغير المتزوجين هي الجلد وليس القتل، فعقوبة القتل رجما تطبق على المتزوج رجلا كان أم امرأة في حالة توافر الشهود الأربعة، ولم تنص الشريعة الإسلامية على إعطاء الحق لأحد في اقتضاء حقه وتنفيذ العقوبات الشرعية بنفسه لا في هذه الجريمة ولا في غيرها.
وأما بالنسبة للعرف، فلكي يعتبر مصدرا للقاعدة القانونية، فيجب أن يتولد في أذهان الناس أن العرف ملزم لهم من الناحية القانونية تحت طائلة الجزاء، حتى يعتبر هذا العرف قاعدة قانونية، وعدم توفر هذا الشرط في حالة جريمة الشرف واضح لا حاجة لبيانه، وقد يرد على ذلك بأن هذا العرف موجود وأن الشعور بالإلزام ناتج عن اعتبار من يتخلف عن قتل قريبته التي ترتكب جرم الزنا جبانا، والجزاء المترتب على ذلك هو احتقار المجتمع، ويرد على ذلك أن العرف لكي يعتبر مصدرا للقاعدة القانونية، يجب ألا يكون فاسدا، وفساد التعارف على القتل واضح لا لبس فيه، كما أن القانون لا يتلقف كل أعراف المجتمع ويطبقها، بل يأخذ ما هو ملائم للقانون والعدالة منها فقط، وتطبيق عرف كهذا فيه تجاوز لغاية أساسية من غايات القانون وهي عدم السماح للأفراد باقتضاء حقوقهم بأنفسهم.
أما بالنسبة لتبرير هذا النص بثورة الغضب، فإن القانون والمؤسسات القضائية قد وجدت أصلا لتهذب الإنسان وتعقل غضبه وتمنعه من اقتضاء حقه بنفسه، فكيف يقوم المشرع بترك الحبل على غاربه لمرتكبي جرائم الشرف كي يعبروا عن غضبهم كما يشاءون؟
كما أن قانون العقوبات قد خفف من عقوبة من يرتكب جريمة بدافع الغضب المبرر فما هي الحاجة لوجود نص خاص بجرائم الشرف.
إن المصدر الحقيقي لهذه القاعدة القانونية هو تخلف العصور الوسطى والجهل وذكورية هذا المجتمع، وإن وجود هذا النص يشجع الذكور على ارتكاب هذا النوع من الجرائم، وإلغاؤه يجعلهم يفكرون ألف مرة قبل ارتكاب هذه الجرائم، لذلك ففائدة إلغاء هذا النص سواء على الصعيد الاجتماعي أو الأخلاقي وحتى الحقوقي أمر لا لبس فيه.
 إن إلغاء المادة (548) من قانون العقوبات في هذه الوقت تحديدا يعبر عن رغبة المجتمع بالانتقال إلى مرحلة جديدة بعيدة عن الهمجية والموروث السيئ الذي لا علاقة لتراثنا ولا لثقافتنا الإسلامية به، كما يعبر عن قدرتنا على تجاوز التخلف، والتقدم باتجاه المستقبل، لأن رقي القانون والخضوع المطلق لسيادته هما المعبر الأبرز عن المستوى الحضاري للأمم.

آخر تعديل على السبت, 01 تشرين1/أكتوير 2016 14:56