الشارع السوري يحسم كل شيء حتى سوق العمل البسطات وإشغالات الأرصفة غير القانونية لتأمين لقمة العيش
عملت السياسات الحكومية الاقتصادية والاجتماعية على مدى عقود طويلة ليس فقط على تهميش المواطن السوري، بل فوق ذلك تركته وحيداً يواجه صعوبة العيش وتأمين لقمته بعيداً عن رعاية الدولة وحمايتها وتكفلها بتأمين فرص العمل له، ما اضطر الكثير من المواطنين السوريين، وفي كل المحافظات، للتحايل على الزمن والسعي كل بمفرده لإيجاد حل لمعيشته وتأمين مورد لرزقه، فانتشرت ظاهرة البسطات منذ سنوات طويلة كنافذة بيع غير قانونية، ولكنها ضرورة إنسانية واجتماعية، فلاقت هذه الظاهرة الكثير من العراقيل والمقاومة، وحملات القمع التي كانت حتى ما قبيل الأحداث التي تشهدها سورية في الأشهر الأخيرة تُشَن ضدها بين الحين والآخر، من رجال تربطهم مع أصحاب البسطات علاقات ودّية مع (الإكرامية) التي تنسيهم لفترة وجيزة القيام بواجبهم الوظيفي في منع إشغال الأرصفة.
وازدادت بشكل كبير في الأشهر الأخيرة ظاهرة البسطات التي ملأت شوارع وأرصفة دمشق، وشهدنا لها انتشاراً كبيراً حيث غطت غالبية الأرصفة، واعتبرها البعض مصدراً للإزعاج، وأنها سلبت المارة الأماكن المخصصة لسيرهم، واضطرتهم في كثير من الأحيان إلى النزول للشارع والتعرض للخطر، وشكلت مصدر إزعاج بصري بتناثرها العشوائي في كل مكان، والبعض الآخر وجد لها المبررات الإنسانية واعتبرها حلاً لمشكلتين كبيرتين هما البطالة وتأمين لقمة العيش، فهي بالنهاية لمواطن يعمل ليكسب لقمة عيشه، وهي حل عفوي أيضاً لأزمة ارتفاع أسعار المواد المعروضة في المحلات، والمشابِهة لما يعرض على البسطات بسعر معقول.
باتت هذه الظاهرة تسترعي انتباه الجميع بسبب الانتشار غير المعقول في جميع الأماكن تقريباً، وليس فقط في الأحياء الشعبية ومناطق أحزمة الفقر، بل أيضاً في الأحياء التي يقال عنها راقية والشوارع الرئيسية، ابتداءً من شارع الحمراء إلى الجسر الأبيض وحتى منطقة البرامكة، وكل الشوارع الرئيسية والفرعية المؤدية إليها. أسواق متنقلة لا يلزمها سوى غطاء من قماش يفرش على الأرض، أو شبك معدني بسيط وتسطر عليها البضاعة الرخيصة ليزدحم الناس عليها من كل حدب وصوب، وهناك بسطات أخرى غير تلك المختصة بالألبسة، حيث تنشر في المخيم وكفرسوسة وبرزة وغيرها بسطات الخضار والفواكه والبطيخ، وفي أسواق أخرى تتكاثر بسطات الدخان والأشياء المهربة من الأدوات الكهربائية ومواد التجميل وألعاب الأطفال.
تساءلت «قاسيون» حول تفاقم واتساع هذه الظاهرة، وخاصة في الأشهر الأخيرة، وهل من الممكن أن تشكل حلولاً فردية لفرص العمل وموارد للرزق اضطرارية؟ أو تحايلاً على الغلاء الفاحش لأسعار المواد الاستهلاكية، والكساد الذي عصف بالأسواق في محاولة للحصول على بضاعة رخيصة وبسعر مقبول؟ من أجل الوقوف على التفاصيل التقت «قاسيون» مع عدد من المتسوقين من بسطات مختلفة، وبعض أصحاب البسطات، وكانت لنا اللقاءات التالية:
ـ المواطنة سمر التي كانت تنتقل من بسطة ألبسة إلى أخرى قالت: «إننا نضطر للبحث عن البضاعة الأرخص بسبب تفاقم غلاء أسعار المواد على مختلف أنواعها من المواد الغذائية ابتداء من كيلو الفروج الذي شب ناراً حارقة إلى السكر والرز ومعظم أنواع الحبوب والمنظفات والسمون. وحتى محلات الألبسة حيث طرحت التنزيلات والحسومات على معظم الواجهات، إلا أن أسعار الألبسة فيها أضعاف ما نجده على البسطات، أو حتى في محلات البالة، فهنا على البسطات يجد المواطن كل ما يريد من بضاعة وبأسعار رخيصة ربما تضاهي كثيراً ما تعرضه محلات الألبسة، كما أن البسطات تشكل عامل جذب للمتسوقين نظراً لانتشارها أمام المارة، وربما يقرر أحدنا شراء حاجة بالمصادفة لمجرد أنه شاهدها على الرصيف وبسعر مغر، في حين أن الذهاب للأماكن الشهيرة أو المحلات المختصة يحتاج إلى قرار مسبق وتخصيص مبلغ للتسوق، وهو أمر غير متوفر لدى الكثير من أصحاب الدخل المحدود، وخاصة في هذه الأيام العصيبة».
ـ المواطن أبو سعيد الذي بدا سعيداً بالصيد الذي أحرزه قال: «عندي ثلاثة شباب وابنتان، وإذا أراد كل منهم زوج أحذية فإننا سننكسر بالميزانية والمصروف لسنة كاملة، ويكون حينها قد آن الأوان لشراء زوج أحذية آخر لكل منهم، وللتوفير كنا نذهب عادة إلى المخيم أو شارع لوبية أو شارع صفد، حيث تشتهر تلك المناطق بتواجد الأصناف التي نرغبها وبسعر مقبول نوعاً ما، أما هنا على البسطة فقد استطعت الحصول على أربعة أزواج من الأحذية بسعر زوج واحد من المخيم، فهنا قيمة الحذاء لا تتجاوز الـ150 ل.س، ومشواري لم يذهب سدى، فسعر الحذاء في مكان آخر لا يقل عن 800 ل.س، وهذا فارق بالسعر يغري باتخاذ قرار الشراء من البسطة، لأنها أرخص وتحوي بضاعة لا بأس بها حسب وضعنا».
أصحاب المشكلة الحقيقيون هم أصحاب البسطات، وهم الذين يعيشون الأزمة ويمثلونها، وكانت لـ«قاسيون» مع بعضهم اللقاءات التالية:
ـ الشاب الثلاثيني أحمد، صاحب بسطة ألبسة، قال: «نريد أن نسترزق، ولا سبيل لمعيشتنا سوى البسطة، واللوم في وجود هذه السوق غير القانونية لا يقع علينا نحن، بل نحن ضحية من ضحاياها، فقلة فرص العمل والظروف المعيشية السيئة هي السبب وراء تزايد ظاهرة البسطات، وكوننا بائعي بسطات لا نرى في عملنا أية أذية لأحد، بل على العكس نحن نحاول إيجاد الحلول، حتى ولو كانت فردية، لمشكلة البطالة، ولو جالت بأفكارنا مشاريع أخرى غير البسطات سنتعامل معها ونمارسها للتخلص من البطالة».
ـ أبو أدهم رب عائلة مكونة من زوجة وخمسة أولاد كلهم بالمدارس، عامل في أحد معامل القطاع العام، يقول: «أسرتي كبيرة والراتب لا يكفي والوضع المعيشي متأزم بسبب الغلاء، وأنا مضطر للبحث عن مصدر رزق إضافي لإعالة أسرتي، وليس لي سوى هذه البسطة البسيطة وحتى ولو كان ما تأتي به من مردود قليلاً، إلا أنه ضروري لتكملة مصروف الشهر، وحسب قول المثل (بحصة بتسند جرّة)».
ـ الشاب إسماعيل، في العقد الرابع من عمره وعليه سمات الحزن والجدية، صاحب بسطة أدوات كهربائية ومواد مهربة يقول: «مواد مهربة؟! نعم، ولو استطعت أن أحصل على الأفيون والحشيش وأتاجر به لفعلت، واحمد ربك أني مازلت متماسكاً ولم أفتعل المشاكل والتخريب ضد هذا البلد السيئ بفاسديه وناهبيه، أنا خريج جامعة منذ أكثر من ثماني سنوات، ولم أحظ بفرصة عمل عند الدولة تناسب شهادتي، ولا حتى لو تجاوزت الشهادة، فأنا لا أريد منصب وزير ولا مديراً، أريد فقط أن أحصل على مرتب شهري آكل منه لقمة عيش بكرامة، أريد أن أعمل فقط، وليس بمقدوري فتح دكان أو إنشاء حرفة ما، فالدولة حرمتني من ذلك، فماذا أفعل؟ ليس لي سوى هذه البسطة أعتاش منها بانتظار الانفراج أو الانفجار، البسطة مصدر رزقي الوحيد، فهل أتركها وأبتعد عنها لمجرد السمعة أو تشويه المنظر؟! أعطني عملاً أترك البسطة»
ـ أبو مالك صاحب بسطة قال: «وعدَت الحكومة بإنشاء أسواق شعبية وتجمعات للبسطات، ولكن هذه التجمعات المزمع إنشاؤها لا تفيد، فهي خارج حركات التسوق وبعيدة على الزبائن، ومع ذلك لو وُجِدت هذه الأسواق لانتظمنا فيها، لآن هذا يخلصنا من المشاكل التي كانت تواجهنا، علماً أن هذه المضايقات قد خفَّت في الفترة الأخيرة، من ملاحقة البلدية لنا ومصادرة البضاعة وإهانة شرطة البلدية لنا، إلى تقلبات الحر والبرد الذي نعيشه على مدار أيام السنة، ولكن لا سبيل للتخلص من هذه الظاهرة رغم اعتراض الكثيرين من أصحاب المحلات المختصة بأنواع السلع والبضائع على وجود البسطات أمام محلاتهم، ويعتبرون أن البسطة تنافس تجارتهم، حيث تبيع المنتجات التي نعرضها والتي تشبه إلى حد كبير معروضاتهم بأسعار أقل بكثير من أسعار المحلات».
ـ المواطن عبد الله قال: «وجود البسطات في السوق السورية جيد ويحل جزءاً من الأعباء الاقتصادية، فهي الملاذ الأول للفقراء ومحدودي الدخل، فضلاً عن أنها تؤمن فرص عمل، وكما يقال تعطي السوق حركة وحيوية، مع أن البعض يقولون إنها وجه غير حضاري، وإشغال الطرق والأرصفة يسبب إزعاجاً، معهم كل الحق، ولكن الحل ليس بإلغاء البسطات بل بتنظيمها، فالبسطات والأسواق الشعبية موجودة في كل البلدان، وحتى المتطورة منها، ويكون تنظيمها بتحديد أماكن معينة للبسطات يستطيعون فيها الاستقرار دون الخوف من سلطة البلدية، ويجب أن يكون المكان مدروساً، ليس بين المناطق السكنية وليس بعيداً عن حركة السوق».
ـ أم محمود، الأرملة الأربعينية التي لا يكفيها معاش زوجها المتوفى، ولها ثلاثة أطفال، اختارت أن تبتعد عنهم طيلة النهار لتبيع الخضروات، وتؤمن أسباب الحياة لها ولأولادها، وتجلس تحت أشعة الشمس الحارقة أو تحت المطر أو في البرد القارس لا يهمها تقلب الفصول، لتأمين عيش عائلتها، وتقول: «الذين يشترون مني يفاصلون بالسعر لأبعد الحدود، رغم أني لا أرفع الأسعار، لكن بسبب الغلاء العام، وبصراحة لم أعد استطيع تحمل عبء المصروف الدراسي لأولادي الثلاثة، وحين يأتي البرد لا بد من المازوت، لذلك فإنني أفكر بأمر قد يبدو سيئاً، ولكنه أفضل وأهون من مواجهة البرد وقلة الطعام، وهو أن يترك اثنان من أولادي المدرسة ليساعداني بتحصيل لقمة العيش، وإلا فإننا أيضاً مهددون بطردنا من المنزل لتأخرنا بدفع الإيجار».
ـ سليمان يرى أن البسطات منظر غير حضاري، فهي تفترش الأرصفة وتمنع المواطنين المارين من الحركة بحرية، ويجب ألا ننسى الأوساخ التي تتركها هذه البسطات خاصة حين تكون هذه البسطة لبيع الخضار أو الفواكه. وهو يقاطع كل البضائع التي تعرضها البسطات من ألبسة أو معلبات أو مواد غذائية أو خضار وفواكه أو مواد مهربة مجهولة المصدر، إما لعدم ثقته بجودة البضاعة، أو لحذره من أن البضاعة قد تكون تعرضت للتلف بسبب سوء التخزين وتعرضها الدائم لأشعة الشمس.
البسطات وإشغالات الرصيف في الرؤية الرسمية
لا تعترف السلطات بالسبب الحقيقي لنشوء ظاهرة البسطات في سورية وهو انعدام فرص العمل أمام الكثيرين من المواطنين الذين يبحثون على حلول فردية لإيجاد مصدر رزق وتأمين لقمة العيش بل أن السلطة تعتبرها فقط ظاهرة مخالفة ويجب إزالتها ومحاربتها دون الدخول في تفاصيل إيجاد البديل وحل المشكلة من جذورها، ففي تصريح لمدير دوائر الخدمات في محافظة دمشق يقول: «إن أصحاب الإشغالات أو البسطات لا يتجاوبون مع المحافظة من المرة الأولى فدوائر الخدمات ترسل الدوريات بمؤازرة قسم شرطة المحافظة إلى كل المواقع التي يتوقع وجود إشغالات فيها وتقوم بحجز الإشغالات الموجودة ومصادرتها وتنظيم ضبوط رسمية بحق أصحاب الإشغالات، ومع ذلك يعود اصحاب البسطات في اليوم التالي ليعاودوا نشاطهم من جديد حتى بعد دفع الرسم والحجز والمصادرة لبسطاتهم فإنهم يخاطرون ويخالفون مرة أخرى ويشغلون الطرق والأرصفة».
أما مدير دائرة الأملاك في المحافظة فيقول: «رغم أن المحافظة تمنح رخصاً للبسطات الرسمية كالتي تبيع الخضار والفواكه وتكون محددة بقرار من مجلس المحافظة إلا أن مشكلة البسطات المخالفة موجودة اينما كان وهي لا تنتهي بمجرد وجود أسواق خاصة بالإشغالات ففي محافظة دمشق توجد أسواق باعة في أكثر من ثماني مناطق مثل التضامن وبرزة والقابون وركن الدين والفحامة والقنوات وغيرها حيث يسمح لباعة البسطة بالعمل هناك ولكن أصحاب البسطات أنفسهم يهربون من هذه التجمعات ويبحثون عن المناطق المزدحمة ويفرشون فيها البسطات مثل سوق الهال القديم والبرامكة ومراكز انطلاق الباصات وغيرها من المناطق المزدحمة».
المطلوب حلول عادلة:
البسطات مشكلة قديمة، ولطالما تم الحديث عنها، ومازالت قائمة حتى الآن بل وتفاقمت واتسعت في الأشهر الأخيرة بشكل كبير، وهي تتطلب جهوداً كبيرة لمساعدة أصحابها على إيجاد فرص عمل تكون بديلاً قانونياً وحلاً جذرياً لمشكلة البطالة وأزمة ارتفاع الأسعار، وإيجاد بضاعة للمواطن المستهلك بأسعار مناسبة، أو على الأقل إيجاد سوق تجمعهم داخل المدينة، بحيث تخفف الازدحام الناتج عن تواجدهم في مناطق متعددة، ويزيل الآثار السلبية المختلفة وفي مقدمتها التشوه البصري والازدحام.