كيف أصبحت شيوعياً
ساحلنا السوري ميدان عريق من ميادين الكفاح الوطني والطبقي ذو تاريخ حافل بالتضحيات وبالبطولة التي سطرتها سواعد الثوار والمناضلين البواسل وهذا ما حملنا إلى زيارة عدد من بيوت الرفاق القدامى في الساحل ومنها بيت الرفيق الراحل طنوس حصني بـ«متن عرنوق» في محافظة طرطوس لنلتقي ابنه الرفيق سلام، وكان الحوار التالي:
- الرفيق العزيز سلام أبو طوني... في هذا البيت.. بل في هذه الأسرة التي رباها أحد أبرز المؤسسين لمنظمة الحزب في الساحل، نود أن تحدثنا عن نشأتك وظروف انتمائك للحزب.
- ولدت عام 1950 وفتحت عينيّ على واقع قاس فالوالد بين مطارد أو سجين بسبب نشاطه السياسي المفعم بالثقة والإصرار على بناء منظمة للشيوعيين في منطقة الساحل.
درست الابتدائية في مدرسة القرية، ومن ذكريات تلك الحقبة التي لا أنساها أبدا حادثة تعرضي للضرب أكثر من مرة وأنا في التاسعة من عمري على يد معلم في المدرسة (وليس معلم صفي) تشفيا كون والدي شيوعيا معروفا (وهو يكره الشيوعيين)، هذه الحادثة الظالمة تركت أثرها العميق في نفسي ودفعتني إلى التفكير( لماذا هذا الكره لمن يضحون بحياتهم من أجل شعبهم ووطنهم) ثم تابعت الدراسة الإعدادية في الثانوية الأهلية بطرطوس وكان لعدد من المعلمين الشيوعيين دورهم المؤثر في شحن قلوب الطلاب بالروح الوطنية العارمة التي دفعتنا للمشاركة في المظاهرات ضد شركات البترول الأمريكية التي استماتت للسيطرة على التنقيب وآبار النفط على الرغم من شعار (بترول العرب للعرب). ويجدر القول إنه إلى جانب تأثير شخصية الوالد التي سآتي على ذكرها، كان لشخصية الرفيق جان صعيب مدير جريدة الأخبار المشهورة أثرها فقد تعرفت عليه من خلال زياراته المتكررة لمنطقتنا بمهمات حزبية، وكنت حينها في الخامسة عشرة، وكان في الخمسين من العمر إنسانا بسيطا مثقفا مليئا بالمشاعر الحارة فهو أب وأخ وصديق لي ولكثير من شباب القرية والمنطقة، لقد كان مثلا أعلى لنا.. والآن سأتحدث عن والدي الذي لم أكن أعرف ملامحه على حقيقتها نتيجة لغيابه المتواصل بسبب الملاحقة والسجن وستستغربون إن قلت: إنني لم أشاهده تماما وبأم العين إلا وأنا في الثالثة عشرة من عمري حين زرته مع أمي وإخوتي وهو في سجنه في مدينة اللاذقية، يومها بالذات رأيت شخصيته الحقيقية الساطعة فقد كان أجمل وأروع مما كنت قد كونته في خيالي، رأيت أمامي شخصية أنيقة تشمخ رغم جو السجن، وأذكر وبمنتهى الوضوح قامته المنتصبة وذلك القلم الظاهر في جيب صدريته والذي أغراني فمددت يدي وأخذته، فبادرني الحاضرون طالبين مني إعادة القلم لحاجة أبي الماسة له في السجن فأعدته معتذرا رغم إصرار أبي على أن أبقيه معي وتترآى بخاطري الآن صورته وقد ارتسمت على وجهه علامات سرور غامر وهو يرى أمامه عائلته التي تحملت ما تحملت بسبب غيابه وبعده المؤلم عنها، هذه الزيارة شكلت نقطة تحول واضح في حياتي حيث اندفعت للعمل في صفوف اتحاد الشباب الديمقراطي بكل همة وحيوية، ومن خلال ذلك تكونت لي صلات بالعديد من الرفاق الشيوعيين ثم جاءت مرحلة الانتقال إلى صفوف الحزب عام 1968 لتبدأ مسيرة النضال والعمل الدؤوب الذي مازال مستمرا حتى اليوم وسيستمر طالما بقيت على قيد الحياة، وبصدق أقول إنني انتقلت مبكرا جدا من الطفولة إلى عالم الواقع الصعب بسبب افتقاد وجود الأب (الملاحق أو المعتقل) وتلك حقيقة صارخة تظهر مدى العذابات والتضحيات التي بذلها وماانفك يبذلها الكثير من الرفاق على حساب سعادتهم وسعادة أسرهم في سبيل سعادة شعبهم وعزة وطنهم. لقد كشفت لي تجربتي المتواضعة أن لا شيء يعادل أن تكون شيوعيا، إنها منظومة متكاملة يخلقها النشاط الحزبي المكرس للدفاع عن حقوق الجماهير الكادحة وبين صفوفها وهي التي تصنع هذا الإنسان الشيوعي، وأنا لا أتصور نفسي من غير هذا الانتماء الطوعي الواعي لحزب الطبقة العاملة، لقد نشأت وتربيت في أسرة شيوعية، ولذلك فمن الطبيعي أن أكوّن أنا بدوري أسرة شيوعية وهذا ما حدث فعلا، وهذا ما يملأ صدري بشعور الاعتزاز لأدائي هذا الدور الوطني والطبقي.