بعد أكثر من مائة عام من الإهمال تحف «الإيبش» تخرج إلى النور.. ولكن
لعل أحداً من أبناء هذا الجيل لم يسمع بشخص اسمه حسين الإيبش، ولعل كثيرين لم يسمعوا أو يقرؤوا أنه صاحب أكبر مجموعة محنطات في سورية، بل وربما في المنطقة بأسرها.. قلة من الناس يعرفون ذلك، والأقل هم من يدركون أهمية ذلك..
نعم لدينا في سورية مجموعة فريدة من المحنطات المميزة لا تقدر بثمن، ورغم ذلك لم ينفض عنها الغبار إلا مؤخراً، بعد أن ضاعت أو (اختفت) قطع نادرة منها، وبعد عشرات السنين من الإهمال غير المبرر..
يا أخي لماذا العجلة!؟
اتركوها مدفونة في مستودعاتكم أستر، على مبدأ إكرام الميت دفنه! اتركوها للأجيال القادمة.. للمستقبل، ربما سيستفيد أطفال الغد من المتبقي منها.. اتركوها مدفونة كأحلام أطفالنا، لأنها إذا أظهرت قد تضيء شيئاً من المعرفة!!!
البداية.. عين على الطرائد... وعين على الوطن:
بين عامي 1870 ـ 1926 وبالتنسيق والمشاركة مع النهضوي المصري يوسف كمال، قام المغامر والصياد الدمشقي حسين الإيبش بثلاث رحلات صيد إلى أفريقيا والهند.. الرحلة الواحدة كانت تستمر لسنوات عدة أحياناً، وكانت المخاطر والمشاق تحفها من كل جانب..
الهدف (الشخصي) الأكبر من كل هذه الرحلات بالنسبة لكلا الرجلين كان تأسيس متحفين للعلوم في كل من القاهرة ودمشق.. وقد تحقق هذا الهدف فعلياً في مصر منذ سنوات طويلة، أما في دمشق فالموضوع، على ما يبدو، مايزال حلماً عصياً قد لا يتحقق مطلقاًً!!
قصة المحنطات مع المؤسسات المحنطة:
كانت المحنطات معروضة في إحدى قاعات «بيت الإيبش » أو ما كان يعرف سابقاً بالنادي العمالي، وما أصبح اسمه الآن: المعهد النقابي.
ولهذا البيت قصة هي ليست مجال بحثنا الآن، أما قصة المحنطات فقد أُثيرت مع أحد محافظي دمشق السابقين، إذ قرر وضعها في المتحف الزراعي، ولأن المتحف صغير ولا يتسع لأكثر من لافتة يكتب عليها اسمه، فقد نقلت هذه المحنطات إلى بيت «السباعي» وبقيت فيه عدة سنوات.
وزير الدفاع السابق طالب بوضع هذه المجموعة النادرة، عندما علم بوجودها، في مكتبة الأسد الوطنية. إلا أن عدم وجود قاعات مناسبة حال دون تحقيق هذه الرغبة.
أخيراً وضعت المحنطات في أحد مستودعات المحافظة، وبقيت فيه إلى أن استلمتها وزارة التربية قبل عدة أسابيع.
الإيبش... الريادي في عصره
المعروف عن حسين الإيبش أنه أحد أثرياء دمشق في بداية القرن الماضي، لكن من يدقق في وثائقه الشخصية والوثائق المصرية الخاصة بهذا المغامر يتبين له أنه أحد رجال النهضة بامتياز.. وهذه نبذة عن حياته وبعض إنجازاته
ـ من مواليد دمشق في أواسط القرن التاسع عشر، درس التجارة في الجامعة الأمريكية في بيروت.
ـ أول من أدخل رياضة كرة القدم إلى سورية عام 1905، ولدى أسرته أول كرة قدم تدخل الملاعب السورية.
ـ عني بالخيل وكانت لديه مجموعة من الخيول العربية الأصيلة، وشارك في سباقات عدة في لبنان ومصر.
ـ وجه عنايته للزراعة، وكانت مشاريعه الزراعية وتطويراته للبذور والنباتات مثار إعجاب زعماء سورية الرسميين.
ـ حاز على ثلاثة عشر وساماً وعدة كؤوس من بينها:
ـ وسام الاستحقاق السوري.
ـ وسام الاستحقاق الفرنسي.
ـ وسام الاستحقاق البريطاني.
ـ أوسمة من الجامعة الأمريكية.
ـ أوسمة عن نشاطه الزراعي والرياضي...الخ.
وكانت له علاقات مميزة مع رجالات عصر النهضة في مصر، وأبرزهم الأمير يوسف كمال أحد أعضاء الأسرة المالكة قبل ثورة يوليو ومؤسس أول مدرسة للفنون الجميلة في القاهرة ومتحف الفن الإسلامي وعدة مكتبات تضم نفائس المخطوطات والتحف الفنية النادرة.
بالنسبة للإرث الذي تركه حسين الإيبش، أو ما تبقى منه، والذي يحتاج في الحد الأدنى للحفظ في متحف وحمايته من السرقة والإهمال، يتكون مما يلي:
1 ـ مجموعة كبيرة ومتنوعة من الحيوانات المحنطة ينوف عددها على 1200 قطعة تضم: زرافات ـ أسود ـ نمور ـ فيلة ـ فرس النهر ـ فهود ـ ضباع ـ ظباء ـ أيائل ـ تماسيح - وحيد قرن ـ ثيران... الخ.
2 ـ مجموعة كبيرة من الصور تؤرخ:
ـ للحياة البرية في الهند و أفريقيا وحياة القبائل البدائية.
ـ لعمليات صيد الحيوانات.
ـ صور أسربة خلفياتها بيوت دمشقية وبعض أحياء دمشق ومحيطها.
3 ـ أدوات الصيد وملحقاته لدى القبائل الإفريقية والهندية.
4 ـ بعض التحف الفنية النادرة..
من الجدير ذكره أنه في الفترة التي نشط فيها الإيبش ويوسف كمال في الصيد والتحنيط، لم تكن قوانين الصيد قد صدرت في العالم، ولم تكن هناك حيوانات مهددة بالانقراض.
كان الأبيش يصطاد، ويرسل صيده إلى بريطانيا ليتم تحنيطه هناك على أيدي خبراء عالميين، وكانت هذه الرحلة تستغرق سنوات، فُقدت فيها عدة مجموعات في أجواء الحرب الأولى.
واللافت أن الأبيش كان يؤمن على هذه الحيوانات أثناء رحلة الذهاب والإياب إلى بريطانيا بمبالغ طائلة، بلغ رقم أحدها 750 جنيه استرليني، وبهذا المبلغ كان يستطيع أن يشتري حياً دمشقياً كاملاً، إلا أن هدفه العلمي البعيد كان أوسع من كل القيم المادية.
وقد أوصى الرجل قبل وفاته ابنه السيد زياد الأبيش ألا يجزئ المجموعة، وأن يبقيها في مكان واحد، وأن تهدى للبلد كي يصار إلى وضعها بمتحف يحمل اسمه.
ضرر.. بفعل الزمن أم الإهمال؟؟
بشكل عام لا تعد الأضرار التي أصابت المحنطات كبيرة، خاصة إذا علمنا أنها لم تكن تتلقى أي عناية أو رعاية، بل إن عمليات الترميم التي جرت عليها في فترة من الفترات زادت على الأضرار ضرراً آخر، إذ تم وصل بعض النسج المتقطعة في رؤوس بعض الحيوانات بمادة الجبصين، ويبدو أن أجواء الرطوبة في المستودع زادت في تمدد المادة الجبصينية وبالتالي ازدادت بقعة الضرر.
أما الصور، وهي بأحجام كبيرة وبأشكال مختلفة، فقد لحق بها ضرر أكبر، إذ تمزقت أجزاء منها نتيجة سوء الحفظ، وتبدو فوق بعضها آثار شرب شاي وقهوة، ونتيجة التعامل غير الدقيق معها طمست معالم بعضها.
البعض يقول تعليقاً على القطع الكثيرة الناقصة: إن بعض المحنطات ملّت من حياة التحنيط لدينا وهربت!
والبعض الآخر يقول بأن هذه النظرية غير دقيقة لأن المحنطات لا تهرب وإنما «لُطشت».
نحن نؤيد النظرية الأولى فليس لدينا على الإطلاق ثقافة «اللطش» و«الهف» والسرقة!!
أليس كذلك؟!
متحف العلوم المرتقب «سري للغاية»!
هل يولد هذا المتحف محنطاً؟ نعم وبالفم الملآن!
ولنبدأ بمواصفات المكان فهو:
ـ ثلاث غرف ملحقة بمدرسة عبد القادر أرناؤوط في التجارة.
ـ قريبة من حديقة الحيوان.
ـ أمامها حديقة واسعة يستطيع الأطفال اللعب بها وانتظار دورهم في الدخول.
ـ يوجد سعة في الفسحة أمام المدرسة للسيارات والباصات.
كل هذه النعم ساهمت في اختيار المكان، لكن العنصر الأهم هو المكان بحد ذاته فهو عبارة عن قاعات صفّية صغيرة وليست قاعات عرض!
وللأمانة نقول: إن المكان ضيق ويلزمه توسيع، وتخديم بالديكورات المناسبة والإضاءة والمؤثرات الصوتية والمشهدية المناسبة فقط!!
ولكن يبقى أهم ما يلزم المتحف هو الإدارة الجيدة، ولعل اختيار السيدة ندى الحفار التي اخرجت المشروع وحررته من مستودعات المحافظة، كان مناسباً، لكن ما أدهشنا هو إقالتها من إدارة المتحف بعد أيام قليلة من تسلمه، وحين سألنا عن السبب تبين لنا أن جريدة تشرين كانت قد تحدثت عن المعروضات في إحدى زواياها بعد زيارة أحد الصحفيين للمتحف، مما أثار حفيظة أحد المدراء في وزارة التربية فسعى لإقالتها، وهذا ما كان..
نتساءل هنا: هل هذا المشروع سري؟. ماذا جاء في المقال حتى يتسبب بإقالة مديرة المتحف؟ لا شيء إلا لائحة بأسماء وأعداد المحنطات، ونظن أن تشرين حصلت عليها من آل الإيبش أنفسهم، وليس من المديرة!
ترى هل تخالف هذه اللائحة ما هو موجود؟ وأين المحنطات المفقودة؟
دعوة للتعاون
إن المكان الذي خصصته وزارة التربية لمتحف العلوم غير لائق بكل المقاييسن، ولا يتسع لجزء مما هو موجود، ولا أعتقد أن محافظة دمشق لديها المكان المناسب لأن المحنطات بقيت في مستودعاتها لسنوات دون أن تقوم بأية خطوة جدية لحفظها بشكل يتناسب مع قيمتها العلمية والأثرية، ومن هنا نحن نأمل أن تتعاون الجهات السياحية والجهات التي تعنى بثقافة الطفل مع المشروع، كمديرية ثقافة الطفل في وزارة الثقافة، ومشروع «مسار» الذي يحضر لمشروع هام على أرض معرض دمشق الدولي القديم، ونأمل أن يسمى المتحف باسم من جمع مقتنياته وأنفق سنوات طويلة من حياته في سبيلها.
■ سامر عادلة