كيف أصبحت شيوعياً
كثيرة هي الأسماء التي تنتصب أمام عيوننا حينما نستعرض صفحات من حياة الحزب الشيوعي السوري، ولكل منها موضع لا يزاحمه غيره عليه، لأن لكل منهم دوره ونضاله وسيرته، وبخاصة أولئك الذين أسهموا في بناء اللبنات الأولى بصرح الحزب، إنهم الأصول التي أطلقت الفروع لتشمخ بهم جميعا سنديانتنا الحمراء في سماء الوطن الغالي، ومن هذه الأسماء ذات السيرة والسمعة الطيبة اسم الرفيق جورج متري عويشق، ضيف العدد (300) من قاسيون .
الرفيق الأستاذ جورج.. كيف أصبحت شيوعيا؟
أنا من مواليد دمشق – حارة الدوامنة عام 1921، كان أبي يعمل مهندس بناء بنى عمارات سكنية وأبراج كنائس ومآذن مساجد: (مئذنة جامع الكلاسة ومئذنة جامع برزة البلد)، وقد اغتيل بصورة غامضة بتخطيط من المحتلين الفرنسيين لنشاطه الوطني عام 1923 وأنا في الثانية من عمري، ومن الطبيعي أنني لا أتذكر شكله إلا من خلال صوره التي رأيتها فيما بعد. قامت أمي برعايتي وأدخلتني المدرسة الابتدائية بحارتنا ثم تابعت دراستي الإعدادية والثانوية في مدرسة الآسية بباب توما، ونلت البكالوريا الأولى عام 39، والبكالوريا الثانية (فلسفة) عام 40.
كنت متفوقا بالمواد العلمية والرياضيات، إضافة إلى متابعتي دروس اللغة العربية التي كان يلقيها أساتذة كبار أمثال عبد القادر المبارك ومحمد البزم في صحن الجامع الأموي، ثم دخلت دار المعلمين الابتدائية، ومن ثم دار المعلمين العليا، كما درست الشريعة ونلت شهادتها عام 46 وفي الامتحان الشفهي حصلت من اللجنة الفاحصة المكونة من الأساتذة مصطفى الزرقا وأبو اليسر عابدين وأستاذ مصري على درجة (85)، وتابعت دراسة الشريعة في السوربون عام 52 كما درست الحقوق، ومارست التعليم بمدرسة «الآسية» التي تعلمت فيها، ثم صرت مديرا لها.
دخلت صفوف الحزب في الثامنة عشرة من عمري، وما دفعني إلى ذلك أمران: الأول هو الشعور الوطني الذي كان يعمر قلبي منذ طفولتي، فقد شاركت بنشاط بكل المظاهرات التي قامت بها مدرستنا، ومن شريط الذكريات الذي يمتد طويلاً سأقتصر الحديث على بعض منها:
- خلال الإضراب الستيني لمدينة دمشق ضد المستعمرين الفرنسيين عام 1936 داهمت مصفحة فرنسية مظاهرتنا قرب مدخل سوق الحميدية، وما زلت أذكر رقمها (16) وأطلقت علينا نيرانها فقتلت أحد الطلاب (من عائلة اللحام) وأصابت بعض المتظاهرين، وكنت أرتدي ثياب الرياضة فسارعت راكضاً عبر سوق الخجا بالالتفاف عليها، وبعد أن اقتلعت حجرا من حجارة شارع السنجقدار، قفزت على مؤخرة المصفحة لأفاجئ الرامي الذي التفت نحوي مذعورا بقذف الحجر على جبينه، فأدميته، ولذت بالفرار أمام ملاحقة جنود الاحتلال والتجأت لمدخل أحد البيوت مدة نصف ساعة تقريباً، وعندما خرجت وقعت بأيدي الجنود المتربصين الذين اقتادوني لسجن المزه العسكري لأكون أصغر شاب سوري يسجن في ذلك المعتقل الرهيب، حيث قطرات الماء لا يتوقف سقوطها ليل نهار برتابة على رؤوسنا،مما ترك أثره على رأسي وسمعي، وبعد شهر قدمت للمحكمة العسكرية، ودافعت عن موقفي وحقي في مقاومة الاحتلال، وكنت أتكلم بالفرنسية التي أجيدها، ثم صدر الحكم بإطلاق سراحي (والجدير بالذكر أنني عدت لذلك السجن بعد ثلاث وعشرين سنة عام 1959 لأسجن ثلاثة أعوام إبان حملات اعتقال الشيوعيين .
- أما الأمر الثاني الذي دفعني لصفوف الحزب فهو دراستي للفلسفة التي وسعت مجال فهمي للفكر العلمي واستيعاب الديالكتيك وتطور المجتمع البشري، ولم أكن في عداد الفقراء، فأسرتي غنية، وقد (خنت طبقتي البرجوازية)، وأول من تعرفت عليه من الشيوعيين الرفاق إيليا مباردي وداود رستم من دير عطية وحكمت الجدّ.
- ومن ذكرياتي حادثة الاعتداء الذي قامت به القوى الظلامية بعد صدور قرار التقسيم عام 1947على مكتب الحزب بحي المزرعة بدمشق، حيث كنت أحد الرفاق المتواجدين بالمكتب للدفاع عنه، وفيه استشهد الرفيق حسين عاقو وجرح عدد من الرفاق وأصبت خلاله برصاصتين واحدة برأسي ومازالت مكانها حتى اليوم، والثانية برجلي، وبأربع عشرة طعنة بالسكاكين.
- ومن ذكريات عهد أديب الشيشكلي حادثة مواجهتي له (بعد أن أمضيت ليلة مختبئاً في بيته بغرفة ابنه حسان وكان أحد طلابي) وشرحي لشرعية نضال الشيوعيين دفاعاً عن حق الشعب في العيش الكريم والحياة الحرة، وقلت له إنهم ليسوا إرهابيين أو مجرمين كما تصفهم.
- بعد زوال الحكم الدكتاتوري عام 1954 أجريت أول انتخابات ديمقراطية لمجلس النواب، وكنت في عداد مرشحي الحزب بمدينة دمشق إلى جانب الرفيقين خالد بكداش ونصوح الغفري، وحصلت على 8500 صوت من أصل 33000 ناخب.
- لن أنسى كل ما مر معي في حياة النضال من أحداث ومواقف صغيرة أو كبيرة لأنني دونتها في مذكراتي المكتوبة باللغة الفرنسية، وهي تعكس التجربة التي عشتها، وخلاصتها تجعلني أصر على سلوك الطريق ذاته الذي سلكته لوعدت للحياة ثانية، وباختصار أقول: إن من يعمل يخطئ، ولقد كانت لي أخطائي ولكنها ليست كبيرة، وقد استفدت منها كثيرا. واليوم أتوجه إلى الرفاق جميعا داعيا للعمل بعزيمة أقوى على إنهاء التمزق والتنابذ الذي أضعف صفوفنا وصفوف الحركة الوطنية.
لنعمل من أجل أن يستعيد حزبنا الذي تربينا في مدرسته دوره الطبيعي في النضال لخير الشعب والوطن.