نحن.. والصراع الطبقي
تكاد الأدبيات السياسية في هذه الأيام تخلو من أية إشارة للصراع الطبقي. وقد يتحدث إنسان أو آخر، عن أهمية أفكار ماركس، أو الأفكار الماركسية، أو الماركسية ــ اللينينية، أو عن الاشتراكية العلمية، ولكن لا يتطرّق إلى الصراع الطبقي كأداة تحليل للأحداث الجارية في زمننا
لقد خاطب ماركس البروليتاريا الصناعية، واعتبرها هي صانعة المستقبل للإنسان، وهذا صحيح، فهي التي صنعت العلم والتكنولوجيا وغيرت حياة الإنسان جذرياً، ومستمرة في تغييرها. هي لم تتسلم إدارة المجتمع، وهذا خلل تاريخي كبير، ولكن هي التي تبني الحضارة ولولاها لبقي العالم في ظلام دامس، وهي أيضاً تصنع الثورة على المدى التاريخي، وعدم قدرتها حتى الآن على تسلم إدارة المجتمع لا يعني أنّ مهمتها قد انتهت: إنها مستمرة، وما دامت الحياة في الكوكب مستمرة بصرف النظر عن أية تطورات سياسية.
وهذا شيء، وكون الصراع الطبقي هو المحرك للتاريخ شيء آخر, فالصراع الطبقي وُجِد قبل البروليتاريا الصناعية، وأدّت جدليته إلى التطور التدريجي للمجتمع. فكيف جرى ذلك؟
تطور المجتمع العبودي في اتجاهين: الأول هو تطور خدمة العبيد للأسياد، لتتحول على مدى زمني طويل إلى القنانة والحرفة، حيث القن هو عبد للأرض، ويعمل فيها لحساب سيده، والمولى عبد للمهنة، وينتج من أجل السيد، والاتجاه الثاني هو الصراع الخفي والمعلن بين العبيد والأسياد، فيسرق العبد سيده، أو يغدر به، ويعاقب بالموت في أغلب الأحيان, أو بالجلد والتعذيب، وقد يثور العبيد جماعة على مثال ثورة الزنج، ثورة الزط في التاريخ العربي، وثورة الفلاحين في مناطق عديدة من العالم؛ وتنتهي تلك الثورات عموماً، إما بالفشل، أو بالخضوع لنظام عبودي جديد، لأن «زعماء» الثورات يصبحون أسياداً في حال النجاح، وقد يكونون أشد استعباداً لأتباعهم من الأسياد القدامى.
أيضاً في الصراع بين الأسياد يستخدم المتصارعون أتباعهم، ومن خلاله يحصل تدمير مشترك للطرفين، ولكن كثيراً ما يحصل بعض الأتباع على امتيازات نسبية لقاء خدماتهم.
بهذه الآلية وجد الأحرار وأنصاف الأحرار في الأنظمة القبلية والإقطاعية؛ ووجدت أيضاً التشكيلات الأسرية، التي ما تزال علاقات العبودية فيها إلى اليوم.
مع تطور الأنظمة العبودية إلى فجر الحضارات الأولى تطلع الأسياد إلى الامتلاك الواسع للأرض وللبشر، وعبر ذلك نشأت الإمارات، والممالك والإمبراطوريات. والنظام فيها جميعاً لم يكن مجرد نظام للحكم، وإنما هو في الوقت نفسه نظام للامتلاك. الأمير يمتلك إمارته، والملك مملكته، والإمبراطور إمبراطورتيه، بشراً وأرضاً، ليست المسألة هنا مجرد استبداد كما قد يخطر للكثيرين، وإنما هي امتلاك: حق الحياة والموت بالنسبة للبشر، وحق الحيازة بالنسبة للأرض ولمختلف الثروات.
بالطريقة نفسها، القبيلة ملك لسيدها (الشيخ)، والعائلة، والشكل الأصغر للقبيلة, ملك للأب.
مع التطور إلى المرحلة الإقطاعية انحسر التملك تدريجياً إلى نظام أو شبه نظام للحكم: وجدت برلمانات استشارية في البداية، ثم برلمانات ذات سلطات كبيرة أو صغيرة تواجه الملك.
ثمة التباس كبير في هذا المجال ينتج عن طرح الديمقراطية اليونانية كديمقراطية، وطرح مجالس قديمة مثل مجلس الشيوخ الروماني كبرلمانات. النظام اليوناني القديم هو عبودي، والديمقراطية فيه تمثل وضعاً توازنياً بين أرباب العائلات الأثينية، وموجود مثله في حال التوازن القبلي في كل مكان. والشيء نفسه بالنسبة للمجالس من نوع مجلس الشيوخ الروماني.
ومع التطور إلى المرحلة الرأسمالية, تطلعت هذه منذ بداية غزو القارة الأمريكية إلى امتلاك العالم.
وكان الاستعمار في القرن التاسع عشر تنفيذاً لذلك التطلع، والاستعمار ينطوي على الغزو القديم، وعلى شيء أخر هو البناء الجديد للمجتمعات لقد ارتكب الاستعمار مختلف الجرائم ضد الإنسان وضد الشعوب، ونهب مختلف أنواع الثروات، ولكن أيضاً بنى مجتمعات نصف حديثة وصارت تؤلف دولاً فيما بعد، إما ذات نظام برلماني، أو ذات نظام ملكي ـ دستوري. أيضا قام الاستعمار ولمصلحته بشق الطرق, وفتح المدارس الحديثة, وقام بالمسح الجغرافي والطوبوغرافي لمختلف بقاع العالم، ونهب الآثار، ولكنه درسها، ودرس التاريخ القديم من خلالها: ولولاه كان المكان والزمان ليسا سوى جملة من الأساطير. أيضاً تصريف المنتجات الصناعية أنتجت وعياً إلى هذا الحد أو ذاك في المستعمرات.
صراع الاستعمار مع السكان الأصليين في كل مكان هو في إطار الصراع الطبقي، وهذا الصراع فرز في المستعمرات مؤيدين للاستعمار مستفيدين منه، ومناوئين له بسبب الأضرار، التي ألحقها بهم.
الصراع في المستعمرات ضد الاستعمار هو صراع طبقي، فالتشكيلات الإثنية أو القبلية، تداس امتيازاتها، وأحياناً وجودها (مثل السكان الأصليين في القارة الأمريكية أو الأوقيانوسية)، فتصطدم تلك التشكيلات مع الغازي الجديد: وهذا الاصطدام قد يوصف فيما بعد بالوطني، غير أنه في حينه قبلي أكثر منه وطنياً. مثلاً صراع عبد القادر الجزائري مع فرنسا في القرن التاسع عشر كان قبلياً، ولو انتصر، بقيت الجزائر جزيرة مظلمة، النضال الوطني نشأ فيما بعد، بعدما تعلم الجزائريون معنى التنظيم الحزبي والسياسي، وبنوا حزب الشعب، ثم جبهة التحرير الوطني، وجيش التحرير، إلخ. النضال حينئذ صار وطنياً، وأدى إلى بناء دولة حديثة نسبياً مستقلة.
يمكن تعميم ذلك على مختلف الصراعات، التي جرت في القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، فقد كانت عموماً مواجهات قبلية مع الغازي الاستعماري، وليس المقصود هنا التقليل من شأنها التاريخي، لأن تطورها أدى عبر مراحل عديدة إلى استقلال المستعمرات.
وهنا ربما يجب القول، إن استقلال البلد ليس هو المهم في ذاته، فاستقلال «اليمن الإمامية»، مثلاً، لعقود طويلة لم يجعلها سوى جزيرة مغلقة بعيدة عن العالم، وعن مجرى التطور. الاستقلال يجب أن يترافق بدولة حديثة، أو حديثة نسبياً، ليكون له معنى وطني.
القبلية في المستعمرات دخلت في صراع مع المستعمر، من جهة، ومع نظيرتها الموالية فيما بعد للمستعمر، من جهة أخرى.
أيضا هنا صراع طبقي بين قبيلة وأخرى، وطائفة وأخرى وذلك على الامتيازات. القبيلة الموالية للمستعمر تحصل على منافع متعددة، محرومة منها التشكيلات الأخرى غير الموالية.
الحربان العالميتان، الأولى والثانية في النصف الأول من القرن العشرين كان العامل فيها هو التنافس على المستعمرات, وذلك التنافس لم يعبر عن نفسه بالحروب فقط، وإنما أيضاً اقتصادياً, وكذلك بالوسائل المخابراتية. كانت الإدارتان الحليفتان، فرنسا وانكلترا، تحرض الواحدة التشكيلات الاجتماعية في مستعمرات الأخرى. وظهرت بهذه الآلية صراعات ضد مستعمر هنا لمصلحة مستعمر آخر. وبهذه الآلية طرد النفوذ الاستعماري الفرنسي في سورية، مثلاً، لمصلحة النفوذ البريطاني، ثم طرد هذا لمصلحة النفوذ الأمريكي.
في كل ذلك لا يعني مفهوم الصراع الطبقي أن الطبقات تشكل اصطفافاً متجانساً، وتتصارع.
الرؤوس هي التي تتصارع، وتجرّ وراءها في الصراع المجموعات التي تستطيع ربطها بشكل أو بأخر.
إدارات الدول الاستعمارية تتحرك باسم شعوبها، ولكن إلى أية درجة تستطيع ذلك. طبعاً الألعاب الانتخابية معروفة، وإذا نجحت قيادة هذا التشكيل أو ذاك، فإنها تستفيد من أجهزة الدولة الإدارية والعسكرية القائمة، وتفرض وجودها سواء أوجدت معارضة أم لم توجد. المعارضة التي يمكن أن تؤثر هي المدعومة اقتصادياً أو خارجياً، أو دعماً مزدوجاً لذلك يجد المرء إدارات مكروهة شعبياً، ولكن باقية رغم أنف الجيمع.
والإدارات الاستعمارية تحركت باسم شعوبها، وخاضت حروبها في مختلف بقاع العالم بدعم كتل اقتصادية تستفيد من الاستعمار، من جهة، ومن تلك الحروب، من جهة أخرى. ثمة صراع طبقي داخلي غير معلن، أو قد ينفجر على شكل إضرابات، أو اي نوع من الاحتجاجات، لكن دون جدوى عموماً، فالاستعمار كان والحالة هذه امتداداً لصراع طبقي داخلي في البلد الغازي، وأثار في الوقت نفسه صراعات طبقية متعددة الوجوه في المستعمرات.
الثورة البلشفية 1917 هي ثمرة صراع طبقي دولي، الطرفان فيه هما هي في جانب والرأسمالية الدولية في جانب آخر.
وانتصرت الرأسمالية الدولية، لكن بعد أن حققت الثورة البلشفية اختراقات كبرى اقتصادية وإدارية، وساعدت على حصول اختراقات سياسية على مستوى عالمي، استقلال المستعمرات وانضمامها كدول مستقلة إلى منظمة الأمم المتحدة، هما بعض مظاهر تلك الاختراقات.
وبعد انتصار الرأسمالية الدولية انتقلت من موقع الدفاع عن النفس إلى موقع الهجوم: غزو البلدان، السيطرة على المؤسسات الدولية، انتقاص السيادة لدى البلدان الأخرى, الهيمنة النقدية، التي هي في نفس الوقت هيمنة اقتصادية، بناء ترسانة عسكرية خيالية، إلخ.
الإدارة الأمريكية نصبت نفسها قيادة للرأسمالية الدولية وجعلت إدارات البلدان الأخرى في مرتبة أدنى من مرتبة الأتباع، إنها تأمر فينفذ الأمر: تأمر مجلس الأمن، فيطيع، تأمر وكالة الطاقة الدولية فتطيع، تأمر محكمة الجنايات الدولية، فتطيع تأمر منظمات الأمم المتحدة فتطيع عموماً.
إنه عصر للعبودية بطريقة جديدة: الإدارة الأمريكية سيدة العالم.
وكما في العالم القديم كانت الصراعات الكبيرة والصغيرة في ظل العبودية هي صراعات طبقية، كذلك هي الصراعات اليوم. المجازر الإرهابية هي نتيجة التمرد المتخلف على الأوضاع الاجتماعية والمعيشية ففي كل مكان ثمة فقر وجوع ووضع اجتماعي مهين للناس، فيستثمر ذلك في تعبئة من يسميهم دستويفسكي بالمذلين والمهانين، في جيوش للإرهاب.
وتعبئهم الرأسمالية الدولية، مرة كأداة ضرب للأعداء، ومرة كذريعة للغزو والاحتلال: مرة لضرب النظام الأفغاني، مثلاً، ومرة لغزو أفغانستان أو أي بلد أخر.
الصراع الطبقي يبقى محركاً تقدمياً للتاريخ حيث انتقل الإنسان من الوحشية إلى العبودية إلى المجتمع المتطور الحالي، وتريد الإدارة الأمريكية أن تقلب التحرك إلى الاتجاه الرجعي المعاكس للتاريخ، ولكنها بذلك تضرب نفسها أيضا، وتدق مختلف المسامير في نعشها (الأزمات المالية، الأزمات الاجتماعية، الأزمات الدولية، إلخ).
وكلاب الصيد لا تبقى مطيعة، فلا بد من أن تلتفت إلى صاحبها وتعضه.
موضوع الصراع الطبقي طويل ومعقد، ويتمنى المرء أن يتصدى له الأكاديميون في العلوم الإنسانية. أما هذه العجالة، التي قمنا بها، فنعتقد أنها ناقصة جداً وتحتاج الكثير من التوسع والبحث