حلم العودة تقتله الذرائع
تكاثرت الأعذار والذرائع أمام المواطنين، من أهالي بعض الأماكن والمناطق التي أعيدت السيطرة عليها في دمشق وريفها، من أجل العودة إلى منازلهم وإعادة الاستقرار فيها، كما غيرها من المناطق والأحياء في مدن ومحافظات أخرى.
أهالي كل من: (الحسينية- السبينة- العسالي- القدم- عدرا البلد- المليحة- دير العصافير- زبدين- شبعا- السيدة زينب- داريا- المعضمية- الذيابية- خربة الورد- ...) وغيرها الكثير من القرى والمناطق والأحياء، ما زالوا بانتظار السماح لهم بالعودة والاستقرار بمنازلهم، خاصة وأن بعض هذه المناطق أعيدت السيطرة عليها منذ أكثر من عامين، وحتى الآن ما زالت الوعود هي سيدة الموقف من حيث اتخاذ القرار الفصل بشأن العودة والاستقرار.
اعتبارات وذرائع غير مقنعة
اعتبارات عديدة تم طرحها وعرضها أمام هؤلاء الأهالي، سواء في اللقاءات المباشرة معهم من قبل المعنيين في الحكومة والجهات التابعة لها، أو عبر وسائل الإعلام والتصريحات الرسمية الخاصة بعودة الأهالي إلى مناطقهم، حيث لكل من هذه المناطق خصوصيته واعتباراته المختلفة والمتباينة من قبل الجهات الرسمية، اعتباراً من الوضع الأمني، مروراً بالترتيبات الزمنية للعودة، وليس انتهاءً بعمليات إعادة التأهيل والصيانة المطلوبين بهذه الأماكن، على مستوى البنية التحتية والخدمات وغيرها.
مع مرور الزمن باتت هذه الاعتبارات، بتنوعها، ليست أكثر من ذرائع غير مقنعة للأهالي، خاصة مع وجود استثناءات في العودة لهذه الأماكن للبعض، وطبعاً مع اعتبارات معينة لها علاقة بالمحسوبية والوساطة، أو التشدد بالإجراءات المتبعة في العودة للبعض الآخر، وغيرها من الاعتبارات الأخرى غير المقنعة بالنسبة للأهالي، والتي تصب بمحصلتها باتجاه قتل حلم العودة بالنسبة لهؤلاء.
شقاء وتشرد وجوع
هؤلاء الأهالي كانوا قد هُجروا من منازلهم تحت ضغط العمليات العسكرية، والاستهداف المباشر من قبل المسلحين، بتعدد تسمياتهم وولاآتهم، حيث اضطر هؤلاء للنزوح إلى أقرب منطقة آمنة، بحثاً عن الاستقرار المؤقت لحين عودتهم إلى منازلهم، وجل هؤلاء خرجوا بما عليهم من لباس، تاركين خلفهم حصيلة عمر من التعب والشقاء، وقد تم تعفيش أثاثهم المنزلي، كما تم تهديم أجزاء كبيرة من أبينة السكن والمنازل، جراء التعرض للقذائف، وقد تحملوا هذه المشاق وكلفها المرتفعة اقتصادياً واجتماعياً، وقد ازداد وضعهم بؤساً مع ازدياد التدهور بالوضع الاقتصادي المعاشي العام بالبلاد، بالإضافة إلى ازدياد حدة ووطأة الاستغلال خلال سنوات الحرب والأزمة بشكل كبير، خاصة وأن بعضهم اضطر للاستئجار مع ما يترتب على ذلك من بدلات شهرية مرتفعة وترتفع باستمرار، ناهيك عن أن بعضهم سكن في بيوت ما زالت من دون كسوة (ع العظم)، مع ما يرافق ذلك أيضاً من انعكاسات سلبية على مستوى الخدمات المنزلية الخاصة، اعتباراً من الماء والكهرباء وليس انتهاءً بعدم توفر شبكة الصرف الصحي، أما عن حال المقيمين بمراكز الإيواء فحدث بلا حرج عن معاناتهم وهمومهم الحياتية اليومية، حيث لم يلجأ إلى هذه المراكز إلا الفقراء والمعدمين من النازحين، الذين تقطعت بهم سبل العيش الكريم.
ذلك كله كان بالنسبة لهؤلاء مزيداً من الشقاء والجوع والعوز والتشرد، مع عدم الاكتراث الرسمي بهذه المعاناة.
أعباء على مناطق الاستقطاب
عانت المدن والمناطق والأحياء التي لجأ إليها هؤلاء النازحين من جملة من التداعيات السلبية، اعتباراً من الضغط السكاني وارتفاع الطلب على السكن (شراءً وايجاراً) ما أدى إلى رفع الأسعار في كليهما، والازدحام والاختناقات المرورية، والازدحام على المواصلات وخاصة بساعات الذروة، مروراً بالضغط على الخدمات المتوفرة فيها (كهرباء- ماء- شبكات صرف صحي- مدارس- صحة- ...) وغيرها، بالإضافة طبعاً إلى تداعيات الحرب والأزمة، وخاصة على المستوى الاقتصادي المعاشي، وتأمين الاحتياجات اليومية من مأكل وملبس وغيرها من الاحتياجات الضرورية الأخرى، وقد حصد سلبيات هذه التداعيات أهالي هذه المدن والمناطق مع النازحين إليها، سواء بسواء، كما أن المقيمين بمراكز الإيواء من هؤلاء لهم معاناتهم على مستوى الخدمات العامة وعلى المستوى الاقتصادي المعيشي أيضاً، خاصة مع حالات الاستغلال ذات الطبيعة المختلفة، سواء من ناحية توزيع المساعدات عليهم، عبر الهلال الأحمر أو المنظمات الدولية والجمعيات الأهلية، أو من ناحية تأمين متطلبات الحياة والرعاية الاجتماعية والصحية وغيرها، علماً أن غالبية المقيمين بمراكز الإيواء هم من الأطفال والنساء، ما يعني فقدان المعيل والسند ضمن المفهوم الاجتماعي الاقتصادي السائد، ما يعرضهم للمزيد من الاستغلال بأوجه مختلفة كثيرة أخرى.
فرصة للمزيد من الإثراء
المستغلون من كبار التجار والسماسرة والفاسدين، وحلفائهم وشركائهم وأدواتهم، كان التشرد والنزوح، والعوز ونقص الخدمات، بالنسبة لهم فرصة سانحة من أجل المزيد من الإثراء على حساب معاناة الأهالي (مقيمين ونازحين)، حيث زاد استغلال هؤلاء وزادت مفاعيل تحكمهم وآثارها حتى طالت أدق تفاصيل الحياة اليومية للناس، اعتباراً من تأمين رغيف الخبز، وليس انتهاءً بصهريج الماء، وذلك كله بمنأى عن الدور الرسمي للجهات الحكومية، التي كانت بعيدة عن تأمين هذه المتطلبات الحياتية والخدمية، بالإضافة إلى انعدام تواجدها على مستوى المحاسبة والرقابة، ما أدى إلى تغول هذا الاستغلال من أجل المزيد والمزيد من الأرباح على حساب حاجات الناس ومتطلبات حياتهم اليومية.
العودة مع بعض المعاناة أخف وطأة
أعوام تمض على هؤلاء الأهالي وهم بعيدون عن منازلهم قسراً بحكم التوجهات الرسمية غير المبررة، علماً أن عودة هؤلاء لا تحل مشكلتهم فقط، بل وتحل المشاكل والتداعيات سابقة الذكر كلها في أماكن الاستقطاب، ناهيك عن التسريع بإعادة الحياة إلى هذه المناطق، على المستوى الاقتصادي والمجتمعي، وما يحمله ذلك من إيجابيات بشكل عام.
وقد أعرب الكثير من أهالي هذه المناطق عن استعدادهم للعودة بظل الوضع الراهن لمناطقهم ومنازلهم، حتى مع التهديم ونقص الخدمات، أو عدم توفر البنى التحتية اللازمة بشكل كامل.
كما أعربوا عن استعدادهم لمؤازرة الجهات الرسمية ذات العلاقة، من بلديات ومؤسسات خدمية أخرى، بما يتوفر لديهم من إمكانات محدودة بهذا الصدد.
حيث تعتبر العودة بالنسبة لهم، حتى وإن حملت معها بعض المعاناة إلا أنها تبقى أخف وطأة من المعاناة التي يعانونها ويكابدونها الآن، وبشكل يومي.
فهل من مجيب، بعيداً عن الأعذار والذرائع؟.