الأسواق السوريّة.. تخفيضات على كلّ ما لا يلزم.. وتبقى بطون الفقراء خاوية!!

في بادرة تبدو للوهلة الأولى استفاقة حقيقية لضمائر تجارنا، تسابق التجار إلى إعلان جملة تنزيلات وحسومات على بضائعهم، المنتجة والمستوردة، وخصوصاً في الشوارع والأسواق  الكبرى كالصالحية والحمراء وتجاوزت نسبة الحسم عند بعضها 70 %.

وكان لافتاً للنظر حجم الإعلان والألوان والأشكال الجديدة له، فيما كان يقتصر سابقاً على لافتات قماشية وكتابة باليد، أما هذه السنة فأخذ الأمر شكل احتفال، كأن السوق على موعد مع العيد.

لكن وفي جولة سريعة على هذه الاحتفالية المثيرة، تبين أن ما يحصل هو وجه أولي للضحك علينا، وتجربة جديدة للسوق المفتوحة على إغراقنا رويداً رويداً في رحلته للإمساك بكل شيء.

Sold  منْ وهم!

 تدخل السوق لترى ما سر الجلبة والألوان التي امتدت من مدخل الصالحية وصولاً إلى ساحة (عرنوس)، تخفيضات بكل الألوان واجتهادات في إظهار الإعلان بطرق فنية جديدة، ما يتشابه بينها هو كلمة (sold) وبعضهم تفنن في كتابتها بكل اللغات، وبعضهم كتب رقماً احتل واجهة المحل ( %50) وسوى ذلك.. تقترب أكثر من الواجهة لتتأكد من النسبة الكبيرة، لعل شيئاً يعجبك، فمنذ زمن تريد شراء أشياء صارت حلماً، لكن ضيق الحال والغلاء حالا طويلاً دون ذلك.

*الأطقم الرجالية: تخفيضات تصل من 30-50 %، ومن أرخص قطعة تبدأ، ذات الأربعة آلاف 4000 لير سورية صارت 2800 ليرة.

أما بقية الأصناف ذات الجودة العالية فلا تشعر بأن تخفيضاً حصل عليها وبشتى الأحوال لن تستطيع شراء أرخصها، إذ تراوحت بعد التخفيض بين 4500-14000 ليرة، معلنة النكوص عن الإعلان.

* ألبسة الأطفال: وهنا الطامة الكبرى، فكلما كانت القطعة أصغر زاد سعرها، وألبسة الأطفال وصلت تنزيلاتها حتى 40 %، فالطقم الولادي انخفض من 2895 إلى 2000 ليرة، ومن 1395 إلى 950، ومن 1925-1400 للصبيان، ومن 1925-1400 للبنات.

للوصول إلى ما يؤكد أن الأمر مجرد دعاية رخيصة، وسط السوق الشهير محل جديد، تقترب من واجهته، تخفيض من 2200-1450، ومن 2900-1400.

* أحذية النساء: البضاعة نفسها لم تزل غالية السعر، عدا الشعبية والتي تباع بالسعر نفسه في شارع لوبية أو سوق الحميدية، فهي بين 300-700 ليرة.

أحقاً هناك تنزيل؟

من الطرافة أو نوع من الاستهتار بالزبون، أن أحد المحلات وضع تخفيضاً من 30-50 % على معروضاته، وعلى قطعة كرتون ملونة في أسفل القطعة القماشية سعران قبل وبعد، تدقق في السعر نفسه، قبل 1200 وبعد 1200، إذاً أين التخفيض، في الأسفل بمكان لا تراه تخفيضاً على قطعة صغيرة 1200-980 ليرة.

محل آخر في منتصف السوق، وضع على الألبسة النسائية من (مانطو- فستان- بنطال) تسعيرة فارغة سوى من إشارة استفهام، وترك للزبون حرية الجدل والمفاوضات داخل المحل، لم يضع تسعيرة واحدة على قطعة، فهل هو نظام جديد للتسعير.

بالقياس

 إذاً مع كل لعبة التنزيلات لم تزل المحلات فارغة من الزبائن، وبعض أصحابها يقفون على الأبواب، وبعضهم يمسح واجهة محله.

لو قمنا بحساب بسيط لأسعار هذه السلع بعد الحسم لوصلنا إلى الاستنتاجات التالية:

-  سعر الحذاء يساوي 50 % من الحد الأدنى للأجور في سورية.

-  سعر الحذاء يساوي 3 أضعاف ما تقدمه جمعية خيرية لثلاث أسر سورية تعيش في سوار المدينة الذي نهشه الفقر.

-  سعر البنطال الولادي = 80 ربطة خبز تكفي أسرة من أربعة أفراد بمعدل ربطة في اليوم لحوالي ثلاثة أشهر.

■  صولدات

 تخرج من الأسواق، بعيداً عن اللباس والأحذية ومستلزمات الحياة، لاعتبار أنها فائض، وأن بالإمكان اللجوء إلى البالة الوطنية في أحلك الظروف.

لكن ما الذي جرى تخفيضه في أزمة الغلاء الفاحشة، تنزيلات على أسعار مكالمات الخلوي، زيادة في عدد الوحدات المقدمة لمستعملي الشبكة.

في السويقة والقابون أكوام من الأدوات الكهربائية المهربة، التي رمت على الرف كل منتجاتنا الوطنية، تلفزيونات من كل القياسات وبأسعار منافسة، وصل سعر التلفزيون من ماركة  عالمية شهيرة وبحجم 21 بوصة إلى 5800 ليرة، يقابله سيرونيكس السوري 12000 ليرة، وقس على ذلك البرادات والغسالات وآلات الكي، وبقية الأدوات الكهربائية.

أما أجهزة الديجتال والصحون اللاقطة والتي كانت حلماً سورياً بامتياز، صارت لدى السوري كقطعة خردة، وهي التي دخلت بيوتنا كساحرات من القرون الوسطى، وكتحف من زمن مندثر، لم يستطع إلا السوريون المنفوخون شراءها، حيث وصل سعر الديجتال ذات يوم ليس ببعيد إلى 100ألف ليرة، أما الآن فهو مع كل تجهيزاته لا يساوي أكثر 3000 ليرة سورية.

الصينيون ساهموا في صولداتنا ببضائعهم صاحبة النخب السري، باعونا بأرخص من تكلفة الإنتاج لدينا (ملاعق- سكاكين- ألبسة- ألعاب أطفال- بسكويت- كهربائيات..الخ)، وبدأ الإنتاج الوطني ينحسر، صارت معاملنا للطلبيات، وتجارنا مستوردي ألبسة وخيوط وكهربائيات، وتجار (شنطة)، وأغلقت كل الورش الصغيرة أبوابها، وألقت بآلاف الأسر إلى الجوع، وآلاف (المعلمين) الحرفيين  والمهنيين إلى خازوق البطالة.

صولد معاكس

 في مقابل هذه الصولدات على ما ليس أساسياً في حياتنا، وفي غياب مقصود، وبأعذار واهية من الجهات الحكومية والرقابية، تمت الممارسات القاسية بحق كل ما هو أساسي، من افتعال للأزمات، غلاء في الأسعار، اختفاء بعض المواد، زيادة الاحتكارات، الفلتان المدروس، التحكم في لقمة الناس (على عينك يا تاجر)، التحول السريع،  المتدرج ، الهادئ، المرعب نحو اقتصاد جديد، رواتب لا تكفي لأول الشهر، كتلة من الموظفين المترهلين، الفساد الذي ينتهك أعمارنا ويحولنا في وطننا إلى أقنان.

من أزمة المازوت الخانقة في شتاء بارد، تزاحم، تهريب، إلى أزمة الغاز، عدم صلاحية الصمامات الصينية، إلى انفجار بعض الاسطوانات وقتل بعض المواطنين.

ثم الإعلان صراحة عن رفع الدعم عن أساسيات المواطن، وتمرير الرفع دون الرجوع إلى المواطن.. دون حساب لدخله في السوق المنفلتة بعد تخلي الدولة عن مهامها.

الأفواه

السلع الأهم والأكثر تأثيراً في حياة المواطن بقيت أسعارها في المريخ.. وهنا لا نتحدث عن سلعة واحدة، أو موسمية، هناك 70 سلعة هي سلة الغذاء لم يطلها التخفيض.. وهذه السلع كانت ذات يوم خارج صلاحيات الحكومات المتعاقبة، التي كانت شعاراتها العريضة (على الأقل شكلياً) الدفاع عن مكتسبات الجماهير ولقمة الخبز.

في كل المراحل التي عاشتها البلاد حصاراً وضغوطاً، كان للسلة الغذائية السورية حرمتها، يمنع الاقتراب من الخبز، وطعام المواطن البسيط.. وقد تحملت الدولة أعباء كبيرة في هذا الإطار، والمواطن السوري صمد، تخلى عن كل الرفاهيات، حتى عن الحاجيات، حلم بالموز، والمعلبات، والخبز المحلى المهرب، وبعلبة محارم، وسمنة غير مهدرجة، وسكر أبيض... صمد مع الدولة فكانت معه لعقود، ولكن لماذا هذا الفطام المفاجئ؟

قررت الحكومة وهي التي وعدت أن لا تفعلها دون استشارة المواطن، أن تفعلها، ستبدأ بالمازوت، ثم بكل الأساسيات، وستترك العنان للتجار والاحتكارات أن يفعلوا ما أرادوا.. وللسوق أن يلتهمنا.

سلة الغذاء المحترقة

 السوق المفتوحة بكل ما فيها، الاحتكارات، تبريرات المسؤولين عن الصقيع المفاجئ الذي جعل سعر جرزة البقدونس 20 ليرة سورية، وأوصل كيلو الحليب إلى 30 ليرة، واللبنة إلى 130، والجبنة إلى 140 ليرة، والبطاطا لتصير حلماً، والخيار إلى 60 ليرة، والفاصولياء إلى 120 ليرة، والسمون والزيوت إلى أسعار محلقة من يوم إلى آخر.

في الوقت نفسه، كل ما تحتاجه متوفر وبأصناف مختلفة، الخبز من سياحي وسكري وعادي وبالشعير ومحلى...الجبنة البلدية والمشللة والسائلة والمعلبة، والخضار في كل المواسم، الصيفي والشتوي، البعل والمروي.. إذاً لماذا كل هذا السعير السلعي؟

لا حجة مقنعة لدى المسؤولين في الدولة، ولم تستطع جمعية حماية المستهلك فعل شيء باعتبارها لا تملك الصلاحيات ولا القدرات، الصحافة بدورها قاومت المد لكنها لم تستطع الوقوف في وجه القرارات المتخذة سلفاً، والمعدة بإرادة التنفيذ.

 المواطن بدوره، وهو الذي اعتاد أن تفعل له الحكومة كل شيء، ما زال مصدوماً من تخليها عنه، أما التاجر والمهرب فيقتسمان المرحلة، الأول باحتكار ما يمكن احتكاره دون رادع، والثاني باللعب على الحاجات، نقل ما في اليد وخلق الأزمة، وجلب ما في الحلم للحسرة.

صولد حكومي

هل تفعلها الحكومة؟.. قد يكون صولد حكومي حقيقي يعيد بعض الأمل للناس، البيض الذي يتمطى على كل الموائد السورية في الصباح والمساء، لماذا لم يعد إلى سعره الحقيقي بعد انتهاء أزمة الأنفلونزا العالمية، البطاطا والبندورة وليمون الساحل وحمضياته من إنتاجنا المحلي، لماذا صار شهوة لموائدنا، وهما أهم جزء في السلة الغذائية السورية؟.

صولد حكومي واحد، بعودة الأسعار إلى حالها كافٍ لاستقرار السوق، ولكن الحقيقة أنه لا ثقة عند الناس لا بقدرة ولا بنية الحكومة على هذا الفعل.. بل إن معظم السوريين يرون أن الحكومة متواطئة ومتورطة بما يحصل، وتمرر سوقاً جديدة، وشكلاً جديداً من التعامل مع وليدها الذي تعتقد أنه كبر.

صولد حكومي، بعدم رفع الدعم عن الوقود، الدولة تخسر في هذا الدعم، لكننا لا نريد خاسراً جديداً معها.

سوقنا

في الشارع المسمى الشربيشات يسكن الفقراء في آخر اليوم ليحصلوا على ما تبقى من البضائع بأبخس سعر. في سوق الدويلعة ما زالت البندورة تباع حسب استخدامها في الطعام، للأكل أم الشرب أم العصير، وهكذا تستطيع الحصول على بعض الكيلوات التي تصنع وليمة فقيرة، مثلاً(جظ مظ).

اللحوم لم تعد من سلة الغذاء عند عدد غير قليل منا، صارت للتباهي بين النساء على وجبة بامياء أو رز بفاصولياء أو وليمة كبة.

التبولة مقبلات الدمشقيين من أجل سيران إلى الغوطة صار يحسب لها حساب، فطور يوم الجمعة للفقراء حصراً، من (مسبحة) وفول وبعض المخللات صارت تكلف 500 ليرة سورية.

سلع كالفجل والبقدونس، الثوم والبصل، التي كانت تباع على هامش دفعة كبيرة من الخضار، صارت بيعة لوحدها، السوري يبحث في وجع عن جرزة بصل أو بقدونس جيدة وبسعر معقول.

خارج الصولد

 ما زلنا خارج الصولد، نعيش ليوم لا دَين فيه، بدخل مهدود، ويد قصيرة.. أسواق الصولدات عصية على جيوبنا، وندرك بذكاء الشعب الفقير أن ما يفعله التاجر هو ألعوبة، اصطياد لنا نحن الذين ابتعدنا بأفواه أولادنا إلى حيث يمكن أن نملأها طعاماً، لا شعارات وبطناً فارغاً.

فهل لدى الحكومة صولد ينتزع الاحتكارات، القطب الواحد في السوق، الوجبة السرية المعدّة لنا ولجوعنا؟!.

آخر تعديل على الثلاثاء, 22 تشرين2/نوفمبر 2016 10:12