من برّا رخام!
قال لي صديق: قرأت في كلمة لك منشورة في جريدة قاسيون عبارة «أنظمة القمع الديمقراطي» إن لكل نظام سواء كان ملكياً أو جمهورياً، محتوى يحدد هويته. إما أن يكون ديمقراطياً، بدستوره وقوانينه ومؤسساته المختلفة، الناظمة لحياة ونشاط الشعب، أو يكون قمعياً دكتاتورياً، أما أن يكون ديمقراطياً وقمعياً في آن واحد، فهذا ما لم استوعبه، قلت:
ـ يا عزيزي الكريم، إن سلوك أسلوب دكتاتوري قمعي علني ودموي، على غرار حكمي سوهارتو في أندونيسيا، وبينو شيت في تشيلي الدمويين بات أمراً مستنكراً، تلعنه شعوب العالم قاطبة، وتصب عليه نقمتها. وهذا ما تتجنبه معظم حكومات بلدان العالم الثالث. فتلجأ إلى صياغة دساتير وقوانين ديمقراطية، تكفل حقوق وحرية المواطنين بشكل جيد، وتشكل مؤسساتها البرلمانية، ونقابات للعمال والفلاحين واتحاداتها، واتحادات كل المهن، من محامين وأطباء ومهندسين ومعلمين ونساء.. وجمعيات مختلفة، لكنها صورية مشلولة ومنزوعة السلاح، لأن انتخابات جميع هيئاتها، بما فيها نواب البرلمان، تكون مسبقة الصنع، بتدخل السلطات المختصة، التي تفرض المرشحين المطواعين لتوجهاتها وأوامرها، وفي الوقت نفسه تغرقها بالمكاسب والامتيازات من سيارات وهدايا لتستحي العين، إلى درجة أن هذه الهيئات، ومعها البرلمان نفسه، يأخذون مواقف وقرارات ضد مصلحة ناخبيهم المشروعة، ذلك لأن معظم عناصرها مسؤولون أمام الجهة التي بوأتهم مراكزهم ومكاسبهم، ولا يستطيعون لها عصياناً، خشية من أن يحرموا منها في دورات لاحقة.
إن مثل هذه الأنظمة، هي من الناحية الشكلية ديمقراطية الوجه واللسان، بل وتفتخر بإنجازاتها في هذا الميدان للاستهلاك الخارجي، ولكنها من حيث الممارسة هي أنظمة قمعية بحق وحقيقة، وهي تزاوج مشروعية ديمقراطيتها بقانوني الطوارئ والأحكام العرفية، اللذين يشلان الدستور والقوانين، ويقويان رهبة سلطة الحكم على الشعب، فيتحول البلد إلى مزرعة للسلب والنهب من قبل الفاسدين.
وهكذا يزداد الأغنياء القلائل غنى، في حين يزداد الشعب فقراً ومعاناة، ومع ذلك تتغنى هذه الأنظمة بعدالة حكمها ووفرة إنجازاتها التي تمنن الشعب بها.
إن الديمقراطية وقانوني الطوارئ والأحكام العرفية، هما على طرفي نقيض، لا يمكن لهما أن يجتمعا، لأن أحدهما يلغي الآخر.
باختصار إن أنظمة القمع الديمقراطي هي أشبه بعروس دميمة، ألبست ثياباً أنيقة، وأثقلت بمساحيق الزينة وبالحلي الاصطناعية. وسألته:
ـ هل استوعبت الآن ما قصدته من عبارتي التي أثارت لديك تساؤلات شتى؟
أجاب قائلاً وهو يهز رأسه موافقاً:
ـ نعم نعم، لكنك أسهبت في الشرح كثيراً.. وكنت تستطيع أن تكتفي بترديد المثل الشائع في منطقتنا «من برا رخام ومن جوا سخام».