عبسي سميسم عبسي سميسم

في ظل التدهور البيئي المستمر.. التنمية المستدامة في سورية هل هي مجرد «برستيج»؟

وضع المجتمع الدولي خطة عمل عالمية للقرن 21 اعتمدها في مؤتمر قمة الأرض الذي انعقد في ريو دي جينيرو عام 1992، وقد سميت هذه الخطة «الأجندة العالمية 21»، وبما أن سورية هي من الدول التي شاركت في قمة الأرض هذه، فقد تم وضع أجندة محلية سميت «الأجندة المحلية 21» بهدف تعميم مفهومي التنمية المستدامة والتخطيط للأجندة الدولية بهدف إحداث تغيير في السياسيات والنشاطات على المستويات كافة من المحلية إلى الدولية.

 فهل كان التوجه نحو التنمية المستدامة في بلدنا مجرد بريستيج وتحصيل حاصل أم أن هناك عملاً حقيقياً وجدياً بهذا الاتجاه؟ وهل لدينا تشريعات تساعد على هذه التنمية أم أنها تعرقلها؟ وفي حال صدرت تشريعات تناسب هذا المفهوم، فما العوائق التي تقف في وجهها؟

التنمية المستدامة؟

قبل الخوض في التفاصيل لابد من تعريف التنمية المستدامة خاصة وأن ثمانية محافظين من أصل 12 لم يسمعوا بهذا المفهوم، وأن 7% فقط من السلطات المحلية يعرفون ما هي التنمية المستدامة بحسب مدير البيئة في وزارة الإدارة المحلية!

 التنمية المستدامة هي التنمية التي تحقق توازناً بين الأهداف الاقتصادية والبيئية والاجتماعية لكل من الأجيال الحالية والقادمة، أو هي التي تلبي احتياجات الحاضر دون النيل من قدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها، فمثلاً عند التفكير في خطة تنموية للزراعة في منطقة ما، يجب استخدام تقنيات تنمي هذا القطاع ولا تؤدي إلى حدوث تلوث في التربة أو الماء أو الهواء يحد من قدرة الأجيال القادمة على متابعة هذه التنمية، وكذلك عند التوسع العمراني في منطقة ما، يجب الأخذ بعين الاعتبار الأجيال القادمة وعدم خلق مشاكل اجتماعية وخدمية لها نتيجة التوسع بشكل عشوائي. 

مشروع (لوكوس)

تم في الأسبوع الماضي الانتهاء من مشروع للترويج لتطبيق مبادئ التنمية المستدامة في التخطيط المحلي سمي مشروع (لوكوس)، وذلك من خلال ورشة عمل ختامية حضرها منفذو المشروع، وممثلون عن مموليه، وعدد من الصحفيين، تم خلالها الحديث عن المشروع الذي انطلق منذ عام 2004 بكلفة 520 ألف يورو وبتمويل برنامج (لايف) التابع للاتحاد الأوروبي بنسبة 70 %، بينما موّل 30 % المتبقية كل من الصندوق السوري لتنمية الريف (فردوس)، ووزارة الإدارة المحلية والبيئة في سورية، وشركة سبيد اليونانية، وكانت المفارقة في هذا المشروع هي أنه مشروع ترويجي للتنمية المستدامة (أي أنه يجب أن يعتمد على الإعلام والإعلان بالدرجة الأولى)، ومع ذلك فإنه لم يتم الحديث عنه بأية وسيلة إعلامية أو إعلانية إلا في آخر خمسة أيام من عمره الذي امتد لأكثر من ثلاث سنوات.

ماذا أبقينا للأجيال القادمة؟

لو بحثنا في مفهوم التنمية المستدامة (أي تلبية احتياجات الحاضر دون النيل من قدرة الأجيال القادمة) وسحبناه على السياسات الحكومية المتبعة في هذا المجال، لوجدنا أن السياسات التي انتهجتها حكوماتنا السابقة وتنتهجها حكومتنا الحالية على الصعيد الاجتماعي أو الاقتصادي أو البيئي، هي سياسات لا تمت للتنمية المستدامة بصلة، بل هي سياسات مخربة لكل البنى التحتية التي قد تساعد الأجيال القادمة. فعلى المستوى البيئي نجد أنه قد صدر قانون متكامل للحفاظ على البيئة ومعالجة كل أسباب التلوث، وشكلت هيئة مستقلة لمتابعة تطبيق هذا القانون، ولكن السلطة التنفيذية فرّغت هذا القانون من مضمونه، إذ ألحقت هذه الهيئة بوزارة الإدارة المحلية، وبدلاً من أن تسعى لخفض مؤشرات التلوث بحسب القانون والصلاحيات المعطاة لها، فقد ساهمت في وصول كل مؤشرات التلوث إلى حدود كارثية، فقبل صدور قانون البيئة كانت هناك مديرية مكافحة التلوث، وكانت تقوم بعمل شبه مقبول في هذا المجال، ولكن صدور هذا القانون ألغى عمل هذه المديرية وحولها إلى مديرية لمراقبة التلوث، على أساس أن تقوم مديرية شؤون البيئة بمهام مكافحة التلوث، ولكنها في الواقع تحولت إلى مكاتب سمسرة تأخذ الرشاوى من كل مخالف لقانون البيئة، وبالتالي تحول القانون إلى ورقة ابتزاز تمارس على أصحاب الفعاليات التي تلوث البيئة. 

شهادة حية

بيّن حمادة. س الذي يعمل في معمل حراري أن المعمل الذي يعمل فيه يطرح مخلفات ملوثة للبيئة من معادن ثقيلة وغيرها، وأن القانون يوجب على صاحب المعمل أن يبني محطة معالجة خاصة بالمعمل لمعالجة هذه الملوثات قبل طرحها في مياه الصرف الصحي، ولكن في الواقع، فإن صاحب هذا المعمل قد «دبر رأسه» مع جماعة البيئة الذين يقومون بالكشف.

تابع: وفي حال حصول شكوى من متضرر ما، فإن الموظفين الذين سيكشفون على المعمل يتصلون بصاحبه ويعلمونه بموعد قدومهم، فيقوم بضخ كميات كبيرة من الماء العادي في مجاري الصرف الصحي، وحين يأتي الكشف ويأخذ عينات من مجاري الصرف الصحي تكون النتيجة أن المعمل لا يصدر مخلفات ملوثة.. وقس على ذلك كل أصحاب المعامل التي تصدر ملوثات.. 

خارج المحاسبة

أما بالنسبة للجهات العامة، فمديرية البيئة بحسب تفسيرها للقانون لا تتحرك إلا بموجب شكوى، ولكن من سيشتكي على جهة عامة إذا كانت تطرح مخلفات ملوثة؟ فمثلاً جميع مخلفات مشفى ابن النفيس تطرح في نهر يزيد، وتذهب مع مياه النهر إلى منطقتي القابون وحرستا بكل ما تحمله من ملوثات مسرطنة ومعدية وسامة، ليسقي بها فلاحو حرستا والقابون مزروعاتهم التي تدخل بطوننا! فمن سيشتكي على مشفى ابن النفيس لطرحه مخلفات ملوثة للبيئة؟

أما بالنسبة لتلوث الهواء فشرطي المرور هو المتحكم بمنع تلويث السيارات للهواء، وحسب القانون فالمخالفة الوحيدة التي تعطل السائق يوماً كاملاً عن عمله هي مخالفة تصاعد الدخان، لأنها تستدعي منه الذهاب مرتين لفرع المرور ومراقبة مديرية النقل لفحص مركبته.

 السائق كرم الصادق قال: أنا مستثمر باص نقل داخلي من شركة المصري وأجزم أن جميع الباصات ليست نظامية من ناحية تصاعد الدخان، ولكن شرطة المرور لايكتبون مخالفة تصاعد دخان إلا عندما ينزعجون من السائق، لأننا نسمي هذه المخالفة (مخالفة ولدنة حرام)، ففي يوم الأحد 27/1/2008 حوالي الساعة 8 صباحاً كنت قادماً من نزلة المتحف، ولم يكن موجوداً في الباص سوى عشرة ركاب، فأوقفني شرطي المرور وطلب أوراق الباص فأعطيته جميع الأوراق التي كانت كلها نظامية، عندها طلب مني رشوة فأعطيته 50 ل.س، لكنه لم يقبلها وطلب 200 ل.س، وحين رفضت فتح دفتر المخالفات وقال لي سأكتبك مخالفة عرقلة سير وهي مخالفة قيمتها 400 ل.س، فقلت له إذا كتبت المخالفة فسأشتكي للنقيب لأنه لا يوجد ازدحام أصلاً، فكان جوابه أعلى ما في خيلك اركبه، وطالما أنك ستشتكي فسأكتبك مخالفة تصاعد دخان، وبالفعل كتب مخالفة تصاعد دخان وتبلغ قيمتها 1500 ل.س، إضافة إلى أنها تعطل السائق والسيارة يوماً كاملاً، وبالتالي يخسر السائق يوم عمله إضافة إلى المخالفة مع أن مديرية النقل لا تقوم بفحص السيارة، بل هو مجرد إجراء روتيني للتعطيل فقط.. 

الوزارة المعنية أساس المشكلة

نلاحظ أن وزارتي الإسكان والإدارة المحلية هما السبب الرئيسي وراء انتشار السكن العشوائي الذي يملأ أطراف معظم مدننا، فوزارة الإسكان بعدم إصدارها لمخططات تنظيمية لتوسيع مخططات المدن تُرك الحبل على الغارب لوزارة الإدارة المحلية التي استغلت القانون رقم 1 لعام 2001 الخاص بمنع البناء في مناطق المخالفات، فرفعت من قيمة الرشاوى التي سيدفعها من سيبني في منطقة لا يوجد فيها مخطط تنظيمي، لدرجة أن بعض مجالس المدن صار يأخذ الرشوة على المتر المربع، وكانت النتيجة أن ظهرت مدن بأكملها كمناطق مخالفات شكلت تجمعات عشوائية يصعب تخديمها بالخدمات الضرورية من ماء وكهرباء وهاتف، كما أنها أصبحت حجة لدى مجالس المدن في عدم تخديمها لناحية النظافة والصرف الصحي، مما جعل سكان هذه المناطق يضطرون لإنشاء بنى تحتية خاصة بهم أيضاً بشكل عشوائي وغير مدروس، الأمر الذي تسبب، وسيتسبب في المستقبل بمشاكل قد تكون عصيةً على الحل.

وعلى الصعيد الاقتصادي فالأمر لا يختلف كثيراً على الناحيتين الاجتماعية والبيئية، فالمستثمر أو صاحب المنشأة الاقتصادية لن يفكر بالتنمية المستدامة طالما أنه يستطيع القيام بأي نشاط اقتصادي بشكل مخالف لكل قواعد التنمية المستدامة في حال كان تقيده بهذه القواعد سيكلفه مبلغاً مادياً أكبر، وطالما أنه يستطيع دفع المعلوم و«يدبر رأسه»، فالذي يخالف القانون الموضوع للحفاظ على البيئة مقابل دفع الرشاوى لن يفكر بالأجيال القادمة، ولن يفكر بتنمية مستدامة. 

عودة إلى مشروع لوكوس

وبالعودة إلى مشروع لوكوس، نجد أن المشروع قد اختار ثلاث مدن لتنفيذ التجارب الريادية التطبيقية، وهي مدينة بانياس كنموذج عن الساحل السوري، ومدينة بصرى كنموذج عن مدينة أو موقع أثري ثقافي يمكن سحبه على أقرانه في سورية، بالإضافة إلى بلدة المليحة في ريف دمشق كنموذج عن الامتداد الذي يلحق بالمدن الكبرى، وما يحويه من ضعف تنظيم عمراني أو اكتظاظ سكاني أو سوء خدمات. ووضع أمامه خمسة أهداف هي: 1ـ الترويج للتنمية المستدامة وحماية البيئة في سورية والدول المجاورة. 2ـ الترويج لتخطيط التنمية المستدامة محلياً (والأجندة المحلية). 3ـ بناء القدرات الوطنية للسلطات المحلية والجهات ذات العلاقة لدعم تطبيق الأجندة 21. 4ـ زيادة مستوى وعي وتشجيع وتدريب المجتمعات المحلية على التخطيط المحلي للتنمية المستدامة. 5ـ تعميم المعرفة بالتنمية المستدامة والأجندة 21، والتأكد من استمرارية التخطيط للتنمية المستدامة.

وتوصل القائمون على المشروع إلى جملة من النتائج بعد نهاية المشروع أهمها: 1ـ هناك حاجة ماسة لتعميم المعرفة بمفهوم التنمية المستدامة وعلى كافة المستويات تلافياً لحصرها في الإطار البيئي على حساب البعدين الاقتصادي والاجتماعي لها. 2ـ إن استجابة المجتمعات المحلية في المناطق الثلاث بشكل عام كانت بمستوى جيد من حيث المشاركة والالتزام والاستعداد للمضي قدماً في التعاون مع السلطات المحلية. 3ـ هناك ضرورة لتعديل قانون الإدارة المحلية لجهة تمكين السلطات المحلية من تخطيط وتنفيذ التنمية المحلية والدخول في مشاريع استثمارية تساعد على تمويل أنشطتها الخدمية. 4ـ ضرورة تشجيع وتسهيل تأسيس جمعيات أهلية محلية تشارك في إطارها السلطات المحلية وتعنى بشؤون التنمية المستدامة. 5ـ تشجيع وتحفيز المبادرات الاقتصادية التي تتوافق مع الرؤية المحلية للتنمية.

إن النتائج التي توصل إليها القائمون على المشروع هي بمعظمها جيدة وصائبة، لكننا نعتقد أن هذه النتائج يعرفها القاصي والداني، فالمشكلة ليست في المواطن كما يزعم معظم المسؤولين الحكوميين عند حدوث أية أزمة، المشكلة هي في تفسير السلطة التنفيذية للقوانين، وبمعنى أدق في استغلالها للقوانين وتطبيقها بشكل يتناسب مع مصالحها ليمكنها من استغلال وابتزاز الملتزم بالقانون ووضع العراقيل أمامه لدفعه للعمل خارج إطار القانون ودفع المعلوم.

فعندما يبرر مدير البيئة تلوث الغوطة الشرقية بأنه كان نتيجة سياسات تنموية مبررة في وقت ما، فهذا يدل على أن المعنيين بشؤون البيئة ماضون بتخريبها، ومن ثم تبرير ما يخربونه دون اعتراف بأدنى مسؤولية عما يحصل. كما أن اتهام مسؤولي الإدارة المحلية للمواطنين بأنهم سبب نشوء مناطق المخالفات وإصدار وزير الإدارة المحلية كتاباً لمنع تزويدهم بالماء والكهرباء، فهذا أيضاً تهرب من المسؤولية ودليل على المضي قدماً في الفساد وتخريب البنى التحتية في البلد. فإذا كانت الجهات الرسمية المعنية بدفع عملية التنمية المستدامة إلى الأمام هي أساس المشكلة، فكيف سنطلب من المواطن الذي لم تبقِ له هذه الحكومة من احتياجاته شيئاً، أن يفكر باحتياجات الأجيال القادمة؟

وفي النهاية نتساءل: بعد أن انتهى مشروع لوكوس، ماذا ستفعل الجهات المعنية بعد هذا المشروع؟ هل ستقوم بمشاريع لتشجيع التنمية المستدامة، وهل ستطلعنا على النتائج التي توصل إليها المشروع، أم أن الموضوع لا يتعدى منحة قدمها الاتحاد الأوروبي، فنُفذت كمجاملة (وبريستيج) أمام الدول التي ساهمت فيه؟؟

آخر تعديل على الأحد, 04 أيلول/سبتمبر 2016 12:12