أطفالنا في كل الفصول.. عمالة وتسول وجوع!
مثل كل البشر لدينا أطفال، يولدون ويكبرون ويلعبون، لهم مدارس ورياض أطفال، وثانويات وجامعات. وفرص عمل.. وهذا حق طبيعي للجميع، لكننا في المقابل، وعلى عكس معظم البشر لدينا أطفال منذورون لأقدار الشارع والعمل واليد القصيرة..
في الصيف يعملون وفي الشتاء، وفي كل الفصول، وبعضهم وراءه معلم يشبه (زليطة) صانع العاهات.. لأطفالنا أقدار جديدة أفرزتها السوق الاجتماعية والفقر.. ورفع اليد من الجهات المختصة (الشؤون الاجتماعية والعمل والتربية)، مع الشارع الذي يأخذهم إلى الرذيلة، والجريمة.
في الحدائق
يعمل أحمد ومحمد (وهما أخوان أحدهما في الثانية عشر والثاني في السادسة عشر) في حديقة (الجلاء) المجاورة لفندق (الفورسيزنس)، من الثامنة صباحاً وحتى الثامنة مساءً. (أحمد) وهو الكبير بينهما يعمل منذ أربع سنوات، يجوب الحديقة منادياً (شاي، متة، قهوة) لزبائن الحديقة، لفتاة وشاب، ثم يدعو لهما (الله يخليكن لبعض)، ثم يعود مرة أخرى، يجمع الكاسات وإبريق (المتة)، أما الأخ الصغير (محمد) فيعمل منذ سنتين، صارا معروفين في الحديقة من الزبائن الدائمين، والعشاق المداومين.
صاحب البسطة (كما يسمونه) يقف بعربته الثابتة أمام مدخل الحديقة من جهة (جسر الرئيس)، يجمع (الغلة) ويضع الطلبات، يومية أحمد وأخيه (250)ل.س . الكبير يأخذ (150) ليرة، والصغير (100) ليرة.. يعودان ليلاً إلى البيت مع بعض الحاجيات، فالوالد متوفى، ولديهما أم أنهكها العمل في البيوت، وأخت صغيرة في المدرسة الابتدائية.
ليس الصغيران وحدهما في الحديقة، أطفال آخرون يمارسون البيع في الحديقة، كولا.. بسكويت...الخ، في دوران دائم خلف ربح قليل يقي الجوع.
إشارات ضوئية للرزق
لاتكاد إشارة ضوئية تخلو من طفل أو امرأة أو رجل كبير، يضع أمامه بسطة (محارم، بسكويت، دخان)، فالسيارات المتوقفة مع بعض الرجاء قد تكون ذات نفع، وقد لا يفتح صاحب النافذة المعتمة نافذته، وبعض (أبناء الحلال) يشترون ربما علبة المحارم للسيارة ويلقون ببعض (البقشيش) الزائد للواقف تحت الشمس أو المطر أو الريح عند الإشارة الضوئية.
آخر شارع (الشهبندر) ثمة أطفال حفاة يمسكون قطع القماش.. فهذا الشارع المدلل بسياراته، وبزبائنه الوقورين وألبستهم الأنيقة ونسائهم اللواتي يمشين ووراءهن (الفلبينية والأثيوبية) باب رزق لهؤلاء الصغار.
صغيرة حافية تركض بين السيارات المتدافعة.. ينهرها البعض، ويضع البعض في يدها المتسخة والمرتجفة بعض المال.. والبعض يعطيها ويصرخ بها: «لا تمسي البلور».. فقطعة القماش متسخة أيضاً.. ولكنها وسيلة لاستدرار الشفقة.
أول شارع الباكستان هناك أربع فتيات من عمر متقارب.. مع كل واحدة عربة صغيرة، تحمل على ظهرها (السمسم، الجوز هند)، ويتسولن الزبائن بالدعاء.
الإشارة الضوئية في شارع الثورة، ثمة أولاد يبيعون (الكعك) والدخان المهرب.. وجوه متعبة لكنها تحمل بعض اليأس والتندر.
إشارة شارع اليرموك، عند مفرق (لوبية) الشارع المكتظ بالزبائن والمتفرجين.. أطفال الدخان المهرب.. وحلة السكاكر، والأطفال الذين يتفوهون بقذارات ليست من عمرهم.. إنه السوق الذي يحوي المتناقضات ويحتاج إلى لسان مختلف للعيش فيه.. كل هؤلاء لا يعرفون شيئاً عن (space toon) وقنوات الأطفال الفضائية.
أطفال الميزان
الوسيلة الأكثر احتراماً.. والأقل امتهاناً.. ميزان صغير أمام جسد صغير، دون كلمات وصمت مطبق.. خمس ليرات وتستطيع أن تعرف وزنك وهل ازدادت نسبة (الكوليسترول في جسدك المهترئ أيها السمين!
على (جسر الرئيس)، عند الدرج الهابط إلى أسفله، يضع (خ.أ) ميزانه بصمت وحزن.. في آخر (الجسر) يضع ابن عم له ميزاناً مشابهاً ويجلس بالوضعية ذاتها كجنين خرج لتوه من بطن أمه.. لم يتعلم بعد هذا الطفل كل حركاتنا نحن الكبار القادرين على التلون مع الحياة المتلونة.
حسب (خ.أ) لا تزيد يوميته على (50) ليرة.. وحتى الميزان ليس له.. فهو لابن جاره، وهو مريض واستعاره منه ليحصل على بعض النقود مقابل أن يدفع له نصف ما يحصل عليه.
صاح بي الطفل الآخر:« لا تصورني».. لكنها المهنة.. أحزنني هذا الرجاء الطفولي.. لماذا لا يريد ذلك.. حتى هذا الصغير عنده شرف وعزة، فلماذا لا يشعر أولئك القادرون على إنقاذه وإنقاذنا بما يشبه ذلك؟؟
على جسر المشاة في شارع الثورة.. يتربع (محمود) بنظراته القاسية.. منادياً (خمسة.. خمسة) وأمامه ميزان صغير.. يروي قصته دون خجل: لم أحب المدرسة يوماً، ووالدي لم يجبرني على البقاء فيها، فهو بالكاد يستطيع تدريس أخوتي الكبار، لذلك حين قلت له (سأبطّل) من المدرسة، لم يمنعني، حاولت العمل في أكثر من مهنة، لكنني لم أستقر في واحدة.. هذه المهنة جيدة لا تحتاج إلا إلى ميزان وقليل من الجهد وهو أن تنادي على الناس أن يزينوا أجسادهم.. وهنا الحركة كثيرة والزبائن إما شفقة أو ليعرفوا أوزانهم يدفعون أحياناً عشر ليرات».
البقية لم يتحدثوا.. بعضهم في السادسة من عمره وأكبرهم في العاشرة.. أجساد صغيرة هدّها البرد والحر، والجلوس الطويل أمام الميزان.
المسؤولون أبناء الإوزة
ـ ثلاثة أولاد يدورون في الشاعر الممتد من فندق الشام إلى شارع الحمراء.. ابنتان وطفل صغير في الثالثة من عمره.. في منتصف الشارع تجلس أمهم على الأرض.. تدعو بكافة ما تعلمته من توسل ورجاء.. أطفال جوعى ومرضى لا معيل.. كأبناء الإوزة يمشون وراءها حين هربت من سؤالنا إلى الشارع الآخر.
أطفال آخرون يُستعملون كوسيلة للتسول.. امرأة في أول العمر، تمد قطعة قماش تحتها، وعليها طفل معاق، وأمامه ورقة مختومة من طبيب، الطفل يحتاج إلى عمل جراحي.. تنهال النقود المعدنية أمامها.. وتقودها حالة الاستجداء إلى البكاء والصياح.
طفل على مقعد متحرك في مدخل سوق الحميدية، يجره رجل في آخر العمر.. يصيح عليه كسلعة، بينما الولد بلا حراك، كأنه دخل في غيبوبة، بعض الذين اعتادوا رؤيته يمرون أمامه دون التفات.. بينما يستوقف الآخرين المنظر المرعب للطفل الساكن دون حراك.
ـ في أوتوستراد المزة.. يتحلق الأولاد حول المارة: من مال الله.. تتركك البنت الصغيرة، ليمسك بك طفل آخر يشدك بعنف.. تسول إجباري، ربما لا يريد ذلك، لكنها رسالة عنيفة لذلك الذي ربما سيتحول في وقت لاحق لمجرم.
ـ تسول من نوع آخر يمارسه أحد الأولاد.. يمد يده الصغيرة بكتاب صغير (الحصن الحصين).. سورة من سور القرآن الكريم.. تسأله ماذا تريد ثمناً لها.. هنا يكون الباب مفتوحاً يجيب: (الذي يطلع من خاطرك).. وهنا لا يمكن أن تدفع (خمس ليرات).. فثمن كتاب الله لا حدود له.. مضافاً إلى الرجاء والتسول.
تسول فج..
على الطريق الرئيسي الوحيد في مدينة (قطنا) يجلس الولد المعاق (اسماعيل)، يدور في الصباح على المحلات يتسول الخضار والفواكه.. ثم لا يسلم منه فرن الخبز.. بصوته العالي ولكنته الغريبة يصيح متوسلاً إلى الله أن يحفظ شبابك وأولادك وزوجتك.. إذا لم تستجب تسمع بصوت عال السباب والدعاء عليك وعلى أولادك بالموت والفقر..
بعد الظهر يكشف (اسماعيل) عن قدم مكسورة ـ لم تكن في الصباح، ومن وقاحته يجلس في الشارع نفسه الذي كان يسير فيه صباحاً، وفي المساء يكشف عن قدم أخرى محروقة منذ زمن.. ثم يبدأ بالبكاء ـ ثلاث شخصيات بثلاثة أشكال يعرضها (اسماعيل) على الناس بصوت عال ودعاء حسب الاستجابة.
سيناريو البضاعة المقلوبة
مقابل سينما (أوغاريت) طفل يبكي وأمامه (صينية) الحلاوة بالسميد.. صينية (وعاء) مقلوب على وجهه بينما تتناثر الحلوى في عرض الشارع.. لقد خرج يبيع وعاءه، لكن أحداً ما تسبب في ضياع رزق يومه..
في اليوم التالي.. طفل يبكي، على جسر المشاة أمام وزارة الداخلية.. الطفل نفسه.. وكذلك الوعاء.. والحلوى تتناثر على عرض الجسر المعدني، في اليوم الذي سيليه بأسبوع.. أمام مبنى المحافظة.. الطفل نفسه بكل مواصفاته، ووعائه، وحلواه.. البكاء القاتل، الدمعة الصغيرة.
لهذا الولد الصغير قصة، هناك من يعلمه هذا الدرس من التسول، إنه نوع من الاحتيال على مشاعرنا.. لايمكن أن ترى طفلاً بهذا الظرف الإنساني ولا تدفع له..
ربما، بعد عشرين عاماً، ستقرأ في الجريدة.. القبض على رأس عصابة الاحتيال التي روعت الدمشقيين.. مهن صغيرة، توجع القلب، ولكنها في النهاية ستنجب مجرمين.
في الطابور الطويل
حتماً.. هو الطابور الطويل الذي يقود إلى الدفء.. وفي ذيل الطابور وأوسطه وآخره، أولاد لم يتجاوزوا العاشرة من العمر.. صباحاً ونهاراً وليلاً.
كازية نهر عيشة.. طابور للسيارات والبشر، الكل هرع مع موسم الثلج والصقيع والازدحام إلى الكازيات.. يحملون عبوات السائل الأصفر الذي يشيع الدفء في الأوصال، أطفال يرتجفون من البرد.
بدراجته الهوائية ينتظر (فارس) دوره في ملء كالون الـ(20) لتراً، ويحاول بالحديث إلى طفل آخر أن ينسى أوصاله التي تكاد أن تتجمد، أكبر أبناء العائلة.. والده في العمل، والمدرسة في إجازة نصف العام، لا بأس من الوقوف للحصول على بعض المازوت.
ـ مستودع الغاز لا يخلو من الأطفال مع دراجاتهم الصغيرة.. وعليها (الجرار) الفارغة، في رحلة قد تستغرق ساعات من الانتظار للحصول على (جرة) مليئة بالغاز، وربما قد يعود في الصباح التالي ليمارس الدور نفسه في الوقوف بالطابور الطويل.
متحلق الخبز
متفرقين، يتركون مسافات فيما بينهم، بنات وأولاد، يفترشون أتوستراد (المتحلق الجنوبي)، وصولاً إلى الأفران الاحتياطية في المزة.. يسحبون رغيفاً من كل ربطة (خبز).. ويضيفون خمس ليرات على سعرها.. فيصل إلى /20/ ليرة سورية.. الزبائن هم راكبو السيارات والموظفون العائدون من وظائفهم، والمستعجلون الذين لا يريدون الانتظار أمام الأفران.
صيفاً وشتاءً، الفتيات يلبسن أغطية الوجه، فهي تحمي من البرد والحر.. وكذلك تمنع أصحاب النفوس المريضة من التحرش بهن.. لكن إحداهن، وتدعى (خ.س)، قالت «رغم ذلك الوشاح لم أسلم من العابرين»، والتحرش: (عيونك حلوة)، (ما هذا الطول).. حتى الناس لا تتركنا لجوعنا وعملنا القاسي.
بعض هؤلاء الأطفال يأتون مع آبائهم أو أمهاتهم.. يساعدون في جمع الخبز وتبريده، ربما يتعلمون مهنة جديدة، تصلح لأوقات الجزع والجوع.
برسم الأوصياء
الوصي الأول، وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، الراعية لكل ذلك القطيع الكبير من الأطفال المتوزعين في شوارعنا.. تحت كل الفصول، هل من نداء أطلقته هذه الوزارة؟!.. هل من محاولة واحدة لها لتكشف عمن يعملون دون الخامسة عشر، في المعامل الموصدة الأبواب، بأجور زهيدة واستغلال جسدي؟!.
هل فكر موظفوها بالنزول إلى الشارع، الحديقة، الأرصفة، لسؤال أولئك المرتجفين، لماذا هم في سوق العمل القاسي، قبل سنوات من استعدادهم النفسي والبدني؟!..
الوصي الثاني، وزارة التربية! كيف تسرب كل هؤلاء من المدارس؟! أين التربية بالتعاون مع المجتمع للملمة كل الفالتين من جيلهم، وراء العيش؟!
الوصي الثالث، أيها الإعلام المحتفي بالإعلانات عن الطفولة والحليب، وبرامج الطفولة الغائبة، حصة من الحقيقة، لتسليط الضوء على هؤلاء، ونداء استغاثة لإعادة عيونهم لتجلس بدفء وطمأنينة، من أجل الضحك البريء لخديعة (جيري) الفأر، للقط (توم). عن الأطفال الذين يرسون لوحات جميلة عن الوطن الجميل بأزهاره.. عندما تكون الحديقة لهم، مكاناً للعب وليس للعمل!!! رفقاً بأكبادنا.. أيها الأوصياء..