من دمّر منظومة القيم الاخلاقية؟

جرائم القتل، الاغتصاب، السرقات، الدعارة، وتعاطي المخدرات، وغيرها من الانحرافات القيميّة ومظاهر الشذوذ الاجتماعي، باتت قضايا شبه يومية في مدينة القامشلي، وهذا التهتك الأخلاقي، وبهذا المستوى كمّاً ونوعاً في أية بلدة أو قرية، ذو دلالات خطيرة بلا شك، ولكن هذه الدلالات في مدينة كالقامشلي تحديداً تنطوي على معنى خاص، وهذه الخصوصية تنبع من مكونات البنية الأخلاقية، التي يغلب عليها الطابع الريفي حيث تلعب قوة الردع الاجتماعية  دورا كبيرا في تكون نسق القيم الأخلاقية، يضاف إلى ذلك أن هذه المدينة معروف عنها أنها إحدى المراكز البارزة للنشاط السياسي والثقافي على مستوى البلاد، ومن هنا كان القول إن الانحدار الملفت للنظر في سلم القيم الاجتماعية، مؤشر على تكوّن بنية أخلاقية جديدة تزيح شيئا فشيئا العناصر الإيجابية في المنظومة الأخلاقية المتوارثة تعكسها حوادث وسلوكيات باتت شبه يومية..

صديق يقتل صديقه من أجل مبلغ زهيد..

رجل مدمن على المخدرات يغتصب إحدى القاصرات المحرّمات عليه.. شاب يسرق أسطوانة الغاز من أهله ليبتاع جرعة من المواد المخدرة.

أب يفاجئ بأحد أطفاله يتعاطى المخدرات.. وغيرها من الوقائع الغريبة عن قيم وتقاليد المجتمع....

هذا الانتشار الأفقي والعمودي لأخلاقيات العالم السفلي لم تهبط علينا من السماء، ولا هي  مصادفة بكل تأكيد. فما هي خلفيتها الحقيقية؟ وما هي المقدمات التي أفضت إلى مثل هذه المظاهر المرضية؟

سنحاول هنا مقاربة الظاهرة وفق المنهج الماركسي في قراءة الظواهر الاجتماعية، ومن هنا ننطلق من الربط الجدلي بين البنية التحتية (علاقات الإنتاج) وتأثيرها على البنية الفوقية والتي تمثل الأخلاق جزءا عضويا منها.

إذا انطلقنا من القول إن علاقات الإنتاج السائدة في البلاد هي علاقات إنتاج رأسمالية ذات طابع طفيلي، فإن هذا النمط الاقتصادي له بنيته الفوقية المتوافقة معه، ولما كان النمط الرأسمالي في علاقات الإنتاج هو الحاضن لكل أشكال القهر الاجتماعي، فإن رأسماليتـ(نا) الطفيلية هي الحاضن الأكثر ابتذالاً وخسة ودناءة لمظاهر هذا القهر وتجلياته العديدة، والتي تتناسل منها كل مظاهر الشذوذ الاجتماعي التي يشهدها مجتمعنا.. إن الرأسمال الطفيلي من خلال سيادته في السوق وتشابك علاقته مع جهاز الدولة في إطار تبادل المصالح مع خليلته البرجوازية البيروقراطية، ومع ما تملكه هذه الأخيرة من مصادر قوة تتجسد بإمساكها بمفاصل كثيرة وهامة في أجهزة الدولة بدءا من أدوات القمع، مرورا بالقضاء، وانتهاء بوسائل الإعلام؛ طبعت بطابعها كل مظاهر التطور الجارية في البلاد ومنها الجانب الأخلاقي. وهذه الهيمنة أنتجت (وعياً) جديدا، و(ثقافة) جديدة، وبالتالي بنية أخلاقية جديدة، تنتهك المقدس، وتتجاوز المحرم، تمسّخ الروح الجماعية، وتسوّق للأنانية الضيقة، وتتمترس خلف جهاز الدولة من حيث كونه أداة قمع، وتنتهك حرمته من حيث كونه مؤسسة ناظمة للعلاقات بين الفرد والآخر،  باختصار إنها بنية لقيطة، وهي  مولود العهر السياسي الذي تمارسه هذه الشرائح.

وبالتوازي مع ذلك  أنتجت هذه البنية أيضا انقساما طبقيا حاد في المجتمع، من خلال تمركز وتركز الثروة بيد فئة قليلة تمخض عنها غنى فاحش ومظاهر ترف استفزازي من جهة، وإفقار الأغلبية، من جهة أخرى، وضمن هذه الأغلبية المظلومة والمنهكة واللاهثة وراء متطلبات الحياة اليومية، تبرز فئة المهمشين التي تكتوي أكثر من غيرها في الجحيم الرأسمالي الطفيلي، بعد أن سدت في وجهها كل الأبواب: فرص العمل، الزواج، السكن.. وتعيش حالة كبت وإحساس مزمن بالحرمان، مما يخلق عندها  موضوعيا روح التمرد  على الواقع،  والذي يتجلى بشحنات انفعالية حادة تجاه المحيط الاجتماعي تفرغ غالبا في غير موقعها وتأخذ طابع الشذوذ الاجتماعي...

وبالربط بين البنية الأخلاقية الأنفة الذكر، ووجود فئة المهمشين، وكلاهما نتاج الواقع الاقتصادي الاجتماعي، تكتمل معادلة الانحراف القيمي، ومع تراجع هيبة جهاز الدولة المنخور بسوسة الفساد، تغيب أية قوة ردع حكومية أو مجتمعية، وتزدهر ثقافة الشنتيانات، وتقاليد العربدة الفردية والجماعية والتلذذ بالإساءة إلى المحيط الاجتماعي كإحدى أدوات إثبات الذات المظلومة والمهمّشة وإحدى طرق الانتقام من الواقع.

نختصر ونقول: إن من يمارسون هذه السلوكيات هم فضلات علاقات الإنتاج السائدة، وهم ضحايا قبل أن يكونوا من الشواذ، فالدولة بالمعنى المجازي هي التي تسرق، وهي التي تغتصب، وهي التي تقتل.. وللحديث تتمة..