مطبات لبائعة الكبريت.. من وحي الصقيع
أكثر من عشرة أيام جامدة مرت، موجة الصقيع التي قسمت ظهور العباد، كهدية لرأس السنة الجديدة وفأل نحس لأيامهم القادمة، شمس باردة وأطراف صغار ترتجف.
هب الفقراء بـ(كالوناتهم) إلى الكازيات، واصطفوا كعادتهم طوابير بائسة ويائسة، تنتظر رحمة ذلك الممسك بصنبور السائل الأصفر، أحجام مختلفة من الأوعية البلاستيكية المرقمة/5-20/ ليتراً، أما من أنعم الله عليه ببعض المال، فملأ برميلاً، خزاناً، صهريجاً، وهناك فئة ماانفكت تأخذ آلاف الليترات لتدفئة مياه مسابحهم في المزارع المرمية خارج دمشق وعلى أطرافها ليمارسوا في دفء بيعنا (الكالونات) الصغيرة، وتقديم الفتات لطاولات غدائنا.
أكثر المشاهد حرارة كانت تلك المرأة التي تحمل (طاسة) مدفأتها، ذات السعة /5 ليترات/، حملتها كما هي، من بيتها، إلى طابور الدراويش الممتد لأكثر من مائتي متر أمام إحدى كازيات (الحسينية)... امرأة تريد بعض الدفء، القليل من الحرارة، لإزالة برودة أطراف وعظام أبنائها المنتظرين أمام منظر المدفأة الجليدي.
رجل آخر، يلبس (بيجامة) نومه، يحمل كالوناً سعة 5 ليترات.. ترى أي قهرٍ وذلٍ يحمله هذا الرجل... وأي فقر نال من هيبة المرأة (بساطتها) المتسخة، والانتظار القاهر للصهريج القادم من دمشق... ثم انتظار آخر ليفرغ حمولته، ثم انتظار ثالث للدور الطويل من الهامات المرتجفة، حتى بعد منتصف الليل.. بدأت جموع المرتجفين رحلة العودة إلى أوكارها الباردة، ثمة أطفال ناموا دون عشاء، فعلى رأي أمي (البردان لايأكل)، ربما توقظهم أو تنتظر الصباح الجامد لتوقد مدفأة ستلتهم في ساعات قليلة وقودها، ثم تعود لتقف من جديد في طابور الدراويش.. الطابور الذي لا وقت له، ممدود على ساعات الليل والنهار، في الصباح الباكر تظن الناس باتوا ليلهم هنا.. في طابور طويل للدراويش.
على مسافة ليست بعيدة، أمام مستودع الغاز في (نهر عيشة)، طابور من المحتشدين المنتظرين، ثمة من يريد تبديل (جرته)، وثمة من يكتتب على (جرة)، وثمة من ينتظر حمولته كأحد موزعي مؤسسة (سادكوب) الخاسرة حتى العظم حسب تصريحات الحكومة.
الغاز كما المازوت، إحدى تباشير السنة الجديدة.. وبردها القادم بلا رحمة.. والمسؤول في المستودع... (اذهبوا وتعالوا في الصباح الباكر)، وهكذا يقول البعض، إنه منذ خمسة أيام يسمع الكلام نفسه ويصدقه، ويعود في الصباح الباكر على وعد المسؤول. أما في الريف، فتأتي سيارة الموزع، تدخل المستودع، يوزع/10 جرات/، ثم يقول: لم يعد هناك غاز، أما المواطن المنتظر فيضطر بعد ساعات لشرائها بزيادة، ووصل سعرها إلى /250 ل.س/ في إحدى قرى الريف البعيدة عن الأنظار، حيث الاحتكار والجشع، وبعد الرقابة، وغياب ضميرها، ورجالها المرتشون لايأبهون لما نحن فيه.
طوابير متشابهة من الدراويش، وأعداد ليست قليلة من أصحاب الضمير الميت، يستغلون الأزمة أو يصنعونها... فالصقيع القادم بلا رحمة تواطأ مع هؤلاء، ضد الناس الذين لم يكن ينقصهم هكذا امتحان.. فالسنة الفائتة كانت مليئة بالامتحانات، وأغلب الذين خاضوها خرجوا منها منهكين، صرعى، جرحى، بلاعزم، ولا روح، وهذا الصقيع جاء ليوجه ضربة قاسمة لأرواحهم المرتجفة سلفاً من الجوع والقهر، والغلاء، وتهديدات الفريق الاقتصادي، والماء الملوث، والأسعار الكاوية، والدخل المحدود أما الحكومة الوصية على كل من يحملون هذه الصفات فتقول إن الأزمة مفتعلة، والمازوت متوفر، وكذلك الغاز... إذن فلماذا كل هذه الجموع تشكل الطوابير المثيرة للشفقة؟ وإذا كانت الأزمة مفتعلة والغاية منها الجشع وسرقة المواطن فمن الذي افتعلها؟ ولماذا لاتتحرك لإيقافه؟ هل عجزت حكومتنا إلى هذا الحد؟ أليس مطلوب منها أكثر من هذا الحياد المخيف؟ إذن فلماذا تقود أقدارنا، وإلى أين تسير بنا، لقد شبع المواطن امتهاناً وامتحاناً، ذلاً وإهانات، برداً وكراً وفراً أمام ووراء السلع الطائرة.
المرأة ذات (الطاسة) المتسخة، تشبه الطفلة (بائعة الكبريت)، أعواد الثقاب التي نفذت تحت البرد الشديد... وفي الصباح علبة الكبريت فارغة، وطفلة ميتة من البرد.
المرأة ذات (الطاسة) المتسخة، الرجل الذي يلبس (بيجامة) نومه، يشبهان عجزنا، نحن المرتجفين من الذعر قبل البرد، لكننا بالتأكيد لسنا في زمن راكب سيارة مكيفة، دافئة، عاتمة، ينظر ويشعر ببعض البرد في قدميه أو أطراف أنامله، وينقذ من براثن الموت.. بائعة الكبريت الجديدة.. ولسنا أصلاً ممن يؤمنون بهذه الحلول.. ولا بالنهايات السعيدة..