عبسي سميسم عبسي سميسم

الفقراء يحاصرهم البرد.. والوقود مفقود

حال الاقتصاد السوري في التعاطي مع الأزمات، أصبح يشبه إلى حد بعيد حال رجل مسن في التعاطي مع المرض. فكما يسبب أي تغير مناخي أو نفسي مرضاً جديداً لرجل تسعيني، فإن أي تغير مناخي أو اقتصادي أو اجتماعي محيط بنا أو بعيد عنا يتسبب بأزمة لاقتصادنا، والأمثلة كثيرة، فزيادة وارداتنا من السيارات تسبب لنا بأزمة خانقة في المرور، وتحرير التجارة تسبب بأزمة في الاقتصاد، وارتفاع درجات الحرارة قليلاً سبب لنا أزمة في قطاع الكهرباء، وعندما ارتفع سعر الدولار تعرضنا لأزمة، وكذلك الأمر عندما هبط سعره، وعندما ارتفع سعر برميل النفط حدثت أزمة، وعندما هبط سعره حدثت أزمة.. الحرب في أفغانستان تسببت لنا بأزمة، والمصالحة في نيجيريا تسببت لنا بأزمة.

باختصار، نحن بلد لديه استعداد لنشوء الأزمات لأي سبب قد لايخطر على بالنا، ومطلوب من المواطن أن يكون مستعداً دائماً للتعاطي مع هذه الأزمات وتحمل تبعاتها، وفي أحيان كثيرة، للتأقلم معها كأمر واقع ودائم. 

الأزمة.. والمسؤول 

ففي الأيام القليلة الماضية جاءت موجة صقيع على بلدنا مثل كل بلدان المنطقة، فظهرت أزمة خانقة في مادتي المازوت والغاز ماتزال قائمة إلى الآن، ومايزال عبء تحمل هذه الأزمة يقع على كاهل المواطن، ولكن اللافت في هذه الأزمة ورغم كل الطوابير التي تصطف أمام الكازيات ومراكز الغاز، أن السيد وزير النفط قد صرح بأنه لا توجد أزمة غاز أو مازوت وأن ما يشاهد من اختناقات هو سوء توزيع فقط، كما بيّن أن احتياجات سورية من الغاز هي 75 ألف طن يومياً، ينتج منه محلياً حوالي 25 ألف طن، وطاقة الموانئ التفريغية هي 40 ألف طن وأنه يتم تغطية النقص وتأمين احتياجات المستهلكين من الغاز عن طريق توريد 10 آلاف طن يومياً بالشاحنات لتوزيعها في المناطق الشرقية، وبيّن أن سبب هذه الأزمة هم ضعاف النفوس الذين يستغلون ارتفاع الطلب على هاتين المادتين.

للتعرف على واقع الأزمة بعيداً عن التصريحات الرسمية، قامت قاسيون بجولة ميدانية على بعض مناطق دمشق وريفها وحصلت على بعض الآراء والمشاهدات.

ففي سوق الهال (الزبلطاني) أكد السيد هيثم (أبو علي)، وهو سائق شاحنة تنقل بضائع إلى سوق الهال أن هناك أزمة خانقة على كل الكازيات، وأنه يضيع عدة ساعات من يومه في انتظار دوره لتعبئة كمية من المازوت، مؤكداً أنه دفع في الكازية التي عبأ منها آخر مرة 60 ل.س زيادة عن التسعيرة التي ظهرت على شاشة الكازية، وأضاف: إن صاحب الكازية لا يعيد أي مبلغ دون المائة ليرة فإن اشتريت بـ170ل.س فعليك أن تدفع مائتي ليرة.. 

الغاز المنزلي.. والتموين

السيد أسامة البخاري في منطقة الحجر الأسود قال: أمضيت نصف يومي في البحث عن أسطوانة غاز، وبعد بحث طويل وجدت بائعاً جوالاً باعني أسطوانة مختومة بختم يبدو رسمياً، ومع ذلك فقد كانت الأسطوانة شبه فارغة وتحتوي أقل من ربع كمية الغاز التي يفترض أن تحتويها الأسطوانة النظامية، ولما سألته عن سبب خفة وزنها أجابني: إنها مختومة من عند الدولة، واحمد ربك أنك وجدت أسطوانة غاز! ولكنني عندما ركبتها في المنزل لم تصمد أكثر من يومين.. إن جميع موزعي الغاز في الحجر الأسود يأتون بحمولة الغاز المخصصة لهم ويفرغونها في مستودعات خاصة، دون أن يبيعوا أية أسطوانة للمواطنين، بل يوزعونها على بعض أصحاب الشاحنات ذات الثلاث عجلات من المتعاملين معهم، وأولئك يقومون ببيعها في السوق السوداء بسعر بين 200 و250ل.س، وأعتقد أنهم يقتسمون فرق السعر مع أصحاب تلك المراكز. وأضاف: لقد اتصلت بشكاوى التموين فلم يرد عليّ أحد! فاتصلت بمديرية الرقابة الداخلية في ريف دمشق، فرد علي شخص قائلاً اتصل بالشكاوي.. نحن لا علاقة لنا بالموضوع، فأخبرته أن الشكاوي لا ترد، فكان جوابه: (وماذا أفعل لك تضرب منك الهن)، وتابع السيد أسامة: بصراحة لم أتمالك نفسي فشتمته على الهاتف وأغلقت الخط، ولكنني أتساءل: هل يجوز أن يضعوا شخصاً غير محترم للرد على هواتف المواطنين؟ وهل بلغ الاستخفاف بشكاوي المواطن هذا الحد؟! نحن بدورنا نتوجه إلى الرقابة الداخلية في ريف دمشق، علها تجد تبريراً لوقاحة موظفيها وردودهم الخارجة عن حدود اللياقة. 

الطابور.. والإكراميات 

المواطنة هبة الغصيني من منطقة دف الشوك، أكدت أنها دفعت 25 ل.س إكرامية لصاحب الكازية، كي لاتقف مع الناس المصطفين طابوراً طويلاً للحصول على بيدون مازوت، وأضافت: كنت مضطرة لأن أدفع له فمعظم الواقفين كانوا رجالاً، وقد دفعت ثمن ليتر المازوت بسعر غير مدعوم لأنني اشتريت بـ75ل.س ودفعت 100ل.س. أما بالنسبة للغاز فسعر أسطوانة الغاز في حينا يتراوح بين 200 - 250 ل.س وحسب الزبون!! وعن سبب هذه الأزمة قالت: أعتقد أن السبب هو الإشاعة التي أثارتها الحكومة حول احتمال رفع سعر المازوت والغاز، إضافة إلى موجة الصقيع التي اجتاحت البلد والتي أدت إلى زيادة الطلب على هاتين المادتين، ما دفع معظم أصحاب مراكز التوزيع إلى استغلال هذه الأزمة لتحقيق بعض الأرباح.

وفي منطقة كفرسوسة قال المواطن عبدو الزين: أعتقد أن الأزمة افتعلها أصحاب المراكز بسبب إشاعة رفع الدعم عن المحروقات، فكثيرون منهم يحتكرون قسماً من مادتي المازوت والغاز التي يستلمونها من أجل بيعها بسعر أعلى، أو بانتظار قيام الحكومة برفع أسعارها وتابع: بالنسبة لي أنا رجل مكتفي مادياً، ولدي في منزلي عدد من أسطوانات الغاز قد تكفيني إلى حين انتهاء الأزمة، ولكنني سمعت من بعض معارفي أنهم اشتروا أسطوانة الغاز بـ250 ل.س.. أعتقد أن المواطن يتحمل جزءاً من المسؤولية لأنه يخضع لكل أنواع الابتزاز دون أن يحرك ساكناً أو يشتكي للجهة صاحبة العلاقة. 

الأعياد.. والأزمة 

في منطقة حجيرة أكد صاحب مركز توزيع مازوت وغاز (رفض ذكر اسمه) أن الأزمة بدأت في فترة عطلة العيد الطويلة، إذ لم يتم توزيع مادتي المازوت والغاز في تلك الفترة مع تزايد الطلب عليها، مما خلق شعوراً لدى المواطنين بوجود بوادر أزمة قادمة، فازداد الإقبال على هاتين المادتين، لاسيما بعد اشتداد موجة الصقيع، وبالنسبة لآلية توزيعه لمادتي المازوت والغاز قال: بالنسبة للغاز أنا أوزعه فور وصوله من سادكوب ولاأحتفظ بأية أسطوانة، فمن يحضر أثناء وجود السيارة التي تجلب لنا المخصصات يستطيع استبدال أسطوانته، ومن لا يحضر تكون الكمية قد نفدت. وتابع، هناك بعض أصحاب مراكز توزيع الغاز يعملون بتعبئة الغازات الصغيرة من الأسطوانات، وهذا العمل حرام وأنا لا أقوم به مطلقاً، أما بالنسبة لتوزيع المازوت فالمركز مفتوح بشكل دائم، وعندما تأتي شحنة المازوت نبدأ بالتوزيع إلى أن تنتهي.

أما الصحفي وسام كنعان فقد قال: على المسؤولين الحكوميين أن يخجلوا من أنفسهم وأن يوقفوا أي ظهور رسمي لهم على شاشات التلفزيون، وأن يصمتوا عن أية تصريحات على صفحات الجرائد، لأن هناك منبر دائم هو الشارع السوري يكم أفواههم ويجعلهم يتوقفون عن الظهور الاستعراضي، وهذا المنبر يتمثل بأعداد البيدونات المصطفة على أبواب الكازيات وشاحنات النقل التي تكاد تقطع أتوستراد دمشق حمص في حالة انتظار مبهمة، ولاأدري إذا كان المسؤولون الذين يظهرون على شاشة التلفزيون ــ ولا نستطيع فهم أية جملة مفيدة منهم ــ قادرين على تبرير حادثة الشاحنة التي كانت تهرب عدداً كبيراً من براميل المازوت، والتي اضطر أفرادها إلى إلقاء أحد براميل المازوت على الأتوستراد ليذهب ضحيتها أكثر من مئة شخص بين قتيل وجريح، ناهيك عن اصطدام أعداد كبيرة من السيارات ببعضها، هذه الحادثة لم يتجرأ أحد على الحديث عنها، وأعتقد أن الأزمة ستظل قائمة طالما أن هناك أشخاصاً فاسدين يشغلون مناصب مهمة في الدولة، تؤكد العديد من المصادر تورطهم في تسهيل تهريب المحروقات، وستبقى الأزمة قائمة طالما أن حالة غياب الضمير تتدرج من بعض المسؤولين الكبار وصولاً إلى أصحاب الكازيات الصغيرة ومراكز التوزيع في الأرياف والقرى الذين يستغلون الأزمة باحتكار مخصصاتهم من المحروقات وبيعها للشاحنات المسافرة خارج القطر، بعد اتفاقهم مع الدوائر الحكومية الصغيرة المسؤولة في تلك القرى، وكمثال حي أذكر جميع الكازيات الموجودة في مدينة جيرود في ريف دمشق. 

أسطوانات شبه فارغة! 

في منطقة السيدة زينب، أكدت المدرسة آمنة مزعل أن موزع الغاز في الحي الذي تقطنه لايوزع أية أسطوانة على المواطنين قبل إجراء بعض التعديلات عليها، فهو يفرغ مخصصاته من الغاز في مستودع خاص، ويغلق المستودع ليأتي بعدها الباعة الجوالون المتعاملون معه، فيعطيهم قسماً من هذه الأسطوانات بينما يقوم هو بتفريغ قسم من الغاز في الأسطوانات المتبقية لديه في (غازات سفارية) قبل أن يبيعها للمواطنين.. إن صاحب المركز يبدل لنا أسطوانة الغاز بـ175 ل.س، ولكنني لا أذكر أن هناك أسطوانة استبدلتها ودامت أكثر من أسبوعين، علماً أن الأسطوانة النظامية تكفيني حوالي الشهر، وتابعت: في حال اعتراض أي مواطن على سعر الأسطوانة أو وزنها فإن الرد الجاهز لدى صاحب المركز: (اللي مو عاجبو لايشتري) فهو يدعي أن الأسطوانات قد استلمها من مؤسسة التوزيع على هذا الشكل، رغم أن الجميع يعلم بأنه يأخذ من كل أسطوانة مايعادل تعبئة غاز سفاري.

أما السيد راشد المحمد، من المنطقة نفسها، فقد أكد أنه موظف وأنه قد أخذ إذناً من وظيفته لتأمين بيدون مازوت لأسرته، فانتظر لأكثر من ساعة ضمن طابور طويل ليفاجئ بعدها أن المازوت قد نفد من المركز الذي ذهب إليه، وتابع: تركت المركز وذهبت بالسرفيس إلى كازية على طريق السيدة زينب، وانتظرت هناك لأكثر من ساعتين أخريين قبل أن أتمكن من تعبئة 20 ليتراً من المازوت. 

من هم ضعاف النفوس؟ 

وفي النهاية نجد أن السياسات الاقتصادية التي تتبعها الحكومة تورد الأزمة تلو الأزمة لمواطنيها، وتفرضها كأمر واقع عليهم، فلا يكاد المواطن يعتاد على واقع أزمة ما، حتى يجد نفسه في مواجهة أزمة أخرى لايعرف للخروج منها سبيلاً، فعلى سبيل المثال: في أزمة الكهرباء؛ كان الحل الحكومي هو (تعويد) المواطن على انقطاعات متكررة للتيار الكهربائي حتى وصل إلى قناعة بأن انقطاع الكهرباء عن منزله لساعتين أو ثلاث ساعات يومياً هو أمر طبيعي، وبالنسبة لأسباب الأزمة فهي دائماً بحسب الجهات الرسمية (ضعاف النفوس) منا نحن المواطنين، والذين يعتدون على الشبكة الكهربائية ويتسببون بزيادة الضغط على الشبكة، وبالتالي انقطاع التيار الكهربائي.

أما بالنسبة لأزمة تلوث مياه الشرب، فالحل الحكومي لها كان بتغيير ذائقتنا، وتعويدنا على شرب مياه ملوثة من باعة جوالين غير مراقبين، يبيعوننا مياهاً من آبار غير مراقبة، حتى أصبح معيار عذوبة المياه ودرجة تلوثها لدينا هو مدى اقترابها وبعدها عن عذوبة المياه التي يزودنا بها البائع. أما مياه الاستعمال المنزلي، فقد اعتدنا ألا نفكر بنوعية هذه المياه، فتفكيرنا ينحصر دائماً في الأوقات التي ستضخ فيها المياه عبر الشبكة المتكلسة التي تصل لبيوتنا. وكذلك الأمر بالنسبة لأزمة المرور، وأزمة التلوث البيئي، وأزمة السكن... الخ. وعلى الدوام المتسبب الوحيد للأزمات هم ضعاف النفوس منا!

فإذا صدقنا ما يقولون فإننا نتساءل: لو كانت نفوس القائمين علينا هي نفوس قوية، فهل سيتمكن ضعاف النفوس منا، أن يفتعلوا الأزمات كيفما شاؤوا وأينما شاؤوا؟!

آخر تعديل على الخميس, 24 تشرين2/نوفمبر 2016 14:03