د. نزار عبد الله د. نزار عبد الله

لماذا تنكل إدارة النقل الداخلي في دمشق بالناس؟

إن تطور نظام النقل الداخلي في مدينة ما، يعبر عن مدى تطورها الاجتماعي والاقتصادي. ودمشق أقدم عاصمة على وجه الأرض، ألا تستحق أن نعتني بها ونحافظ عليها مزدهرة؟!

كان النقل الداخلي قبل قرن من الزمن منظماً بشكل رشيد، وكانت الحافلات الكهربائية تنقل الناس بين العديد من أحياء المدينة: خطّ من المرجة إلى دوما مروراً ببساتين المشمش واللوز وغيرها، فكانت نزهة جميلة باستخدام الحافلات الكهربائية، إلى جانب خطّ آخر كان ينطلق من المرجة إلى نهاية المدينة في آخر حي المهاجرين، وخط يتجه إلى الميدان. كانت الحافلة الواحدة تنقل قرابة مائة راكب، ولها مواقفها الرسمية، إضافةً إلى الباصات الكبيرة، التي تتسع للكثيرين وتنقل الركاب ضمن خطوط منظمة عبر أحياء المدينة. ثم جاءت شركة النقل الداخلي، وأُحدث نظام البطاقات الأسبوعية والشهرية والسنوية، وأقيمت مظلات للمواقف الرسمية التي أطلقت عليها أسماء الأحياء والشوارع المختلفة.

بدأ انهيار منظومة النقل الداخلي في الثمانينيات، بعد أن اشترت مؤسسة النقل الداخلي مئات الحافلات الجديدة، ثم طُلب إليها أن تتوقف عن العمل، وأُدخل عوضاً عنها كم هائل من «الصراصير» ذات السعات الصغيرة، بين 10- 12 راكباً، وعلى المواطن أن ينحني أثناء الدخول والخروج منها، وراحت هذه الصراصير تقف فجأة لتأخذ راكباً أو تنزله في أي مكان، وألغيت المواقف النظامية، وتضاعفت تعرفة النقل بعد الخصخصة، فتراجعت جودة النقل وضربت الفوضى أطنابها، فأية مفارقة هذه؟!

تتولى شركات النقل الداخلي ومؤسساتها في شتى مدن العالم الرأسمالية المتطورة والاشتراكية بنقل الجمهور إلى حيث يرغب، وفي أسرع وقت ممكن وبتعرفة معتدلة تكون على الأغلب مدعومة من الدولة، وفي جميع الدول المتطورة اقتصادياً واجتماعياً، تتولاها شركات القطاع العام بالدرجة الأولى، ويبتعد القطاع الخاص عنها لأن أرباحها صغيرة، هذا إذا تشكلت أساساً! ولا يجوز أن يكون هدفها الربح بل تقديم خدمة النقل للمواطنين. حيث تخصص المدن الكبيرة في معظم الدول المتطورة مساراً خاصاً للنقل الداخلي، لا يسمح للسيارات الخاصة باستخدامه، باستثناء سيارات الإطفاء والإسعاف والشرطة والمراسم، كي يصل كلٌّ إلى هدفه بأسرع وقت.

ثم انهار النقل الداخلي كلياً، عند نقل مرآب البرامكة إلى السومرية، على مسافة 7 كم خارج المدينة، نجم عن ذلك مضاعفة كلفة النقل بنسبة 100 % في الذهاب والإياب، ناهيك عن إضاعة وقت المواطن الثمين، وزيادة كلفة النقل بالنسبة لأصحاب «الصراصير» أيضاً، فانهارت منظومة النقل بشكل مريع و مأساوي.

مثال آخر على عدم الرشاد في منظومة النقل الداخلي: كان خط مساكن برزة ـ جبل (المنارة) يصل إلى آخر شارع الثورة، ويعود من شارع الثورة أيضاً، تم تحويله ليعرج على المزرعة في الذهاب، فطال الطريق قرابة 2 كم، وطال الزمن بسبب وجود ثلاث إشارات ضوئية وشرطي مرور، قرابة 10 دقائق أحياناً. وفي طريق العودة تحول الخط ليعود عبر البحصة، شارع 29 أيار وشارع بغداد، فطال طريق العودة مسافة أكثر من 2 كم، وطال الزمن بسبب الزحام الشديد، ويتضمن هذا الجزء أربع إشارات ضوئية، وطال الزمن قرابة 10 دقائق أيضاً. ونجم عن ذلك زيادة الزحام دون مبرر في هذه المنطقة. فيدفع المواطن من وقته الثمين ويكون عليه أن ينتظر زمنا أطول قدوم «الصراصير». وهذه خسارة اقتصادية يومية، وفي كل سفرة، للموا طنين ولأصحاب الصراصير.

من الرشيد اقتصادياً، أن يعود الخط إلى مساره القديم في الذهاب والإياب، عبر شارع الثورة. بحيث تُمنع «صراصير» مساكن برزة، ومزة جبل، من عبور نفق شارع الثورة عند الفيحاء في الذهاب بحجة تخفيض الزحام فيه، وفي الوقت نفسه تمنع «صراصير» جوبر ـ مزة من الانتقال مباشرة من شارع بغداد إلى شارع الثورة كما تفعل السيارات الخاصة، وتجبر على الدوران لتمر من النفق نفسه. أي رشاد هذا؟!

لا يملك أحد الحق ببيع مرآب النقل الداخلي، فهو ملك عام يخدم سكان المدينة الذين يبلغ عددهم في النهار أكثر من 3 مليون نسمة.فقد قيل: إن الأرض ستباع إلى مستثمر أجنبي لبناء مرفق سياحي فيها. السياحة يجب أن تكون في خدمة الاقتصاد الكلي وليس العكس. المفروض أن تقدم السياحة منافع للاقتصاد، ولكنها بدأت باستباحة مرافق النقل الداخلي. وهذه جريمة اقتصادية واجتماعية. لن تزدهر السياحة في مدينة، ما لم يكن النقل الداخلي فيها منظما جداً. سيتنقل السائح وهو في سيارته الخاصة، أو سيارة الأجرة، وهو يشفق على، أو يتشفى من، الجمهور الذي يتدافع هنا وهناك، بطريقة غير إنسانية، وغير حضارية، نساءً وأطفالاً وشباباً ومسنين، يهرولون محاولين الانقضاض على الصراصير، أملا في الحصول على مقعد أو ليقبع في الممر، بدل أن ينتظر طويلاً في هذا الزحام المتوتر، كل يوم في الذهاب والإياب، لم يكن هذا يحصل قبل نصف قرن!

منذ سنوات تناقلت الصحف اليومية أكثر من مرة أخباراً عن تبرع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بمئات الباصات للنقل الداخلي، مقابل أن تستخدمها للدعاية للسلع الإيرانية، أو أن أحد رجال الأعمال السوريين قد قدم عرضاً مشابهاً، أو عن صفقة مع جمهورية الصين الشعبية لتوريد باصات للنقل الداخلي. لكن مرت السنون والجمهور يعاني بقسوة ولم يتم تأمين أية باصات، لكن في الوقت نفسه تم استيراد مئات الآلاف من السيارات الخاصة التي تغص الطرقات بها وتملأ الشوارع والأرصفة. كم يخسر الجمهور والاقتصاد الكلي بسبب انهيار منظومة النقل الداخلي؟! كم تتراجع إنتاجية العمل بسبب رداءة هذه الخدمة؟

يصل العامل منهكاً متوتراً إلى عمله وفي طريق العودة إلى منزله، فكم تتراجع جودة الحياة؟! عندما نفترض أن الانتظار على الطريق ريثما يتمكن العامل من الاستئثار بمكان في «صرصور» ينقله من بيته إلى عمله وبالعكس، يأخذ نصف ساعة يوميا، تكون الخسارة كالتالي:

5 مليون مشتغل × 250 يوم عمل × 50 ل.س أجرة الساعة الوسطية = 62،5 مليار ل.س سنويا. وعندما يكون التأخير نصف ساعة فقط، تقارب الخسارة 31،25 مليار ل س سنويا.

وفوق ذلك، إن تراجع جودة النقل يؤثر سلبا على إنتاجية العمل، وبالتالي على القيمة المضافة، على اعتبار أن وسطي القيمة المضافة للمشتغل يمكن تقديرها بـ 0،25 مليون ل.س في السنة، نستطيع أن نقدر إجمالي القيمة المضافة كما يلي:

القيمة المضافة لقوة العمل يمكن تقديرها ب 5 مليون × 0،25 مليون = 1250 مليار ل.س.

عندما تنخفض القيمة المضافة بنسبة 1 % ،تكون الخسارة على الاقتصاد الكلي حول 2،5 مليار ل.س. وعندما تنخفض بنسبة 2 %، تكون الخسارة على الاقتصاد الكلي حول 5 مليار ل.س. وعندما تنخفض القيمة المضافة بنسبة 3 %، تكون الخسارة على الاقتصاد الكلي، 7،5 مليار ل.س.

تنخفض القيمة المضافة كثيراً بسبب معاناة المشتغل والعامل في النقل الداخلي، ما يشكل خسارة كبيرة للاقتصاد الكلي. لذلك من الرشيد توفير وسائل النقل الداخلي، بحيث تكون كبيرة فسيحة سريعة، منخفضة التعرفة وفورية. ولتكن على شكل حافلات كهربائية وباصات كبيرة. ومن الرشيد إقامة المنشآت السياحية، على جبل قاسيون مثلا، وعلى سفوحه الغربية، لأنها تتمتع بهواء نقي وإطلالة جميلة، والأراضي أملاك دولة، وبالتالي زهيدة الثمن. وهي أعلى ب 300 م، من مركز المدينة (المرجة) مثلاً، وتكون الإطلالة على المدينة العريقة، عوضاً عن تدمير مدينة دمشق بالاكتظاظ العمراني والسكاني. لا يجوز التوسع العمراني في مدينة دمشق، لأنها تنوء بحمل ما شيد في غوطة دمشق، على حساب الأراضي الزراعية في ريفها، وفي رئتها.

آخر تعديل على الخميس, 24 تشرين2/نوفمبر 2016 14:04