مطبّات أبيض..أسود
لم يعد الفن مرحاً! ثم عُممت هذه العبارة على حياتنا كاملةً، العمر، الحب، العمل، صوت فيروز، آهات أم كلثوم، همهمات العمال الذاهبين إلى ورشاتهم، طلبة المدارس، دروس التاريخ الحافل بالانتصارات، حتى الهزائم التي أصابت مَوجعاً للعدو.
قالها فاتح المدرس، ومضى إلى موته دون التفاتة حزن علينا، على ما آلت إليه أغانينا، جيوبنا، عيوننا، ورحلاتنا لحضور فيلم سينمائي بعنوان( عشرة أيام هزت العالم)، أو( الإمبراطور الأخير)، أو التدافع لحضور مسرحية لجواد الأسدي.
أطلق عبارة كالرصاصة، ثم ببساطة مات، وعشنا ندور بها على كل زوايا حياتنا التي اختلفت، تداعت، صارت مائعة، دون صباحات حالمة عن امرأة تحب البنفسج، وتهديه، دون كأس شاي بليرتين، وسندويشة فلافل بخمس ليرات، ومشوارٍ مجاني إلى جسر كيوان، هناك ثمة فرعٌ صغيرٌ من بردى الذي لم يكن ينقطع.
فجأة صرنا بلا لون أبيض، دون مشاوير، سقطت يافطات قلوبنا، والقصائد التي غررت بنا طويلاًً (غرفة ضيقة وصغيرة)، والأغاني العنيدة عن الوطن، صراخ مارسيل، بذاءات مظفر النواب، مجلة العربي، الكتب التي كانت ممنوعة، ثم صارت تباع على الأرصفة، كعناوين عن جيل مضى (الثالوث المحرم)، (وليمة لأعشاب البحر)، ودخلنا عنوة إلى عالم أقل ما يمكن أن يقال عنه، إنه ليس زماننا الأبيض الأبله.
غمرتنا الصرعات، لم نعد نعرف الوجوه التي كانت تحدد طرقاتنا وطرقات قلوبنا، تجرأ الصغار على أحبابنا، وتركونا على الأبواب كقادمين من عالم آخر، توحشنا، نبتت لنا ذقون من إبر، شعر هائج كوحيد قرن، لبسنا الخيش، وصرنا كما أرادونا، بشراً دون لياقة، دون برستيج، لم نتذوق الهوت دوغ في مطعم على الرصيف، لم نتعلم من السباحة سوى الغرق في شبر ماء، لم نرتد الجينز المشقوق، أو نمارس الجنس جماعة كقطعان الجواميس، لم نعاشر خلاسية، أو زنجية، لم نقرأ بقلب مفتون روايات (عبير) عن سقوط الارستقراطي في حب فقيرة، أو نتثقف على مفردات (قيثارة الليل) لجورج إبراهيم الخوري، أحببنا من مجلة الشبكة فقط صور العاريات، وفضيحة ديانا، تسبح في لباس البكيني مع تشارلز وهي حامل بالأمير الذي أدى الخدمة في أفغانستان.
في الزمن الأسود، جاء الرجال الجدد، طارت مقاعد حبنا، وكسرت كؤوس ثملنا الصامت، والبنفسج القديم صار بلا رائحة، دروب خطانا تغيرت، بضربة واحدة ساقونا إلى الإهمال، صاروا هم الجيل الذي بالطبيعة حذف غيره، أغان تشبه القفز، همبرغر، شيش طاووق، سكالوب، وجبات سريعة الهضم، تسابق آكليها، أما نحن، فقد شبعنا انتفاخات الوجبات الشعبية، وشرب الشاي الأسود، والمشي السرمدي للذهاب إلى نومنا الحالم بغدٍ لنا.
في الزمن الأسود سقطت عواصم، في زمننا سقطت أحلام وأقاليم، لكننا كما نعتقد لم نسقط ، بقينا على الخديعة الأولى التي ساهمنا بأيدينا في اتساعها، خداعنا، في الزمن الأسود صاروا يتحدثون عن الواقع، الأمر الواقع، الحياة يجب أن تعاش وكفى، وسيل من الانتقاد، ماضويون، تعشقون الماضي، الوهم، أبطالكم مجانين، شعراؤكم مرتشون، واهمون.
منعت في عصرهم وزارة التربية الضرب في المدارس، السينما في البيت، الكمبيوتر، الانترنت، الفضائيات، ونحن أبناء القناتين، الأصح القناة ونصف، المباراة التي تقطعها نشرة الثامنة والنصف، عدم الاعتذار عن نقل مباراة كانت ضمن برامج التلفزيون، وعنده آلاف المحطات، من المحيط إلى الخليج، إلى العالم أجمعه، من محطات القداسة حتى الشذوذ، من الترفيه إلى الأكشن، نحن الذين كنا نركض إلى الأسطح مع كل نسمة هواء تطيح بالهوائي وشفراته، ومحاولة التقاط إشارة محطة جديدة تبث مسرحية أو فيلماً دون قطعه بلا اعتذار.
في الزمن الأبيض، الذي نحن فيه كأمر واقع، ها نحن نتحدث عن الغلاء، قسائم المازوت المدعوم، الصرف الصحي، بردى المحتضر، دمشق المحاطة بقطيع البشر الساكنين فوق بعضهم في مناطق المخالفات، الشوارع المحفرة، خطوات الفريق الاقتصادي نحو عُرينا، تركنا في العراء دون حماية، فطام الدولة لنا، نحن الذين تربينا في حضن القطاع العام، أكلنا من خيراته، سببناه أياماً، لكننا لم نحقد عليه، نحن الذين عشنا حياتنا في طابور طويل، على الأفران المزدحمة، نضع بديلاً عنا، قطعة نقود تافهة، حجراً، غطاء زجاجة مشروب غازي، علاقة مفاتيح، أي شيء يوحي بوجودنا، أمام أبواب المؤسسات انتظرنا طويلاً دورنا في علبة محارم ورقية، أو علبة سمن مستوردة، أو شراء علبة سجائر أجنبية.
في الزمن الأسود.. وداعاً لنا، لأحلام كانت خدعة ليست بريئة.