كيف أصبحت شيوعياً؟
على ضفاف الخابور تناثرت قرى ومزارع، متتبعةً مجراه في تعرجه اللافت، تقطنها شريحة عزيزة من شرائح جزيرتنا المعطاء، شريحة كدها الترحال القسري والتهجير في النصف الأول من ثلاثينات القرن الماضي، ومنذ أن استقر بهم المطاف في هذه الأرض، وهم يناضلون ويكدحون من أجل الأرض والإنسان، لقد وهبوا الأرض العرق والدم، وتشبعوا بحب الوطن والإنسان .
إنهم الآشوريون، الذين يقطنون سرير الخابور الأعلى، بين الحسكة ورأس العين، وفي إحدى تلك القرى الوادعة المسماة «تل سكرة» التقت «قاسيون» الرفيق إبراهيم نانو من تيار النور.
الرفيق المحترم أبو نضال: كيف أصبحت شيوعياً؟
بداية لا بد من القول: إن كنا قد تعلمنا من آبائنا وأجدادنا حب الأرض والإنسان، فقد علمتنا الشيوعية أكثر وأكثر، لقد علمتنا حب الوطن بكل مفرداته، سمائه وهوائه وأرضه، وفوق كل ذلك إنسانه، وبث فينا الفكرُ الشيوعي الروحَ الوطنية العالية، وأتذكر حينما كنا طلاباً في مدينة الحسكة، في خمسينات القرن الماضي،كان الشيوعيون يقومون بالمظاهرات للمطالبة بحقوق العمال والطلبة والفلاحين، وهذا كان كافياً وقتها ليشدني أنا وأصدقائي من الطلاب، كوننا فقراء، كي نتعاطف معهم، خاصة عندما يتعرضون لغضب السلطات التي تنقض لقمع مظاهراتهم، وضربهم واعتقالهم. وقد بهرني حينها نضال الشيوعيين من أجل الفقراء، ومحاربة الظلم والاستغلال، فتعرفت على بعضهم، وقدمت طلب انتساب إلى الحزب، تم رفضه في البداية لصغر سني، ولكن فيما بعد قبلوني، وتلك الفترة كانت تتميز بشدة الرقابة على الشيوعيين وملاحقتهم، خاصة في سنوات حكم الوحدة، ومن أبرز الذين عملت معهم معلم مدرسة اسمه (ميخو أوديشو). وفي أواخر عام 1958 جرت اعتقالات للشيوعيين، وكان لنا نصيب فيها، حيث ألقي القبض علينا، وعوملنا بقسوة كبيرة، وتم سجننا في سجن الحسكة المركزي، وحكموا علينا بالسجن ثلاثة أشهر، وأنا كنت حَدَثاً، إلا أنه تم ضبط المناشير عندي، فحُكمتُ مثلهم. ورغم القسوة التي كانت تتعامل بها دولة الوحدة مع الشيوعيين، إلا أنه كان في كل قرية من قرى الخابور، رفيق أو اثنان أو أكثر من الشيوعيين. في عام 1961 اضطررتُ للسفر إلى لبنان، بقصد العمل لإعالة أسرتي، حيث كنا نعيش ضائقة اقتصادية، ورجعت إلى وطني عام 1975 بسبب الحرب الأهلية في لبنان. ولكن أكثر ما آلمني وأوجعني بعد عودتي، أن الحزب قد دخل عصر الانقسامات، وأن الآثار السلبية للانقسامات قد أضعفت الحزب وأفقدته قاعدته الجماهيرية. ولا يمكن أن يكون هناك حزب شيوعي مناضل قوي في ظل الانقسام، كيف يكون لعملنا جدوى ونحن منقسمون ضعفاء؟! لقد فقد الحزب بفعل الانقسام أعداداً كبيرة من مناضليه، ومن الذين اعرفهم (دانيال مقصود) من قرية (تل هرمز) وقد هاجر إلى أمريكا. وأعداد كبيرة من قرى الآشوريين، تركوا الحزب بسبب الانقسامات التي حصلت حتى الآن.
وبمناسبة الحديث عن الهجرة، فإنني أؤكد أن هجرة الآشوريين سببها اقتصادي بحت في بداياتها، ولكنها الآن للأسف، أصبحت ظاهرة يعتمدها الجيل الجديد من الشباب، كأسلوب للحياة الأفضل، وهذا أخطر ما في الأمر .
وكانت ثقافتنا من الكتب الماركسية، وبجهود شخصية. وقد عملنا مع رفاق نفتخر بهم ونحترمهم، من أمثال الرفيق (عيسى ملكي)، ومن الذين عملت معهم سوية من القرية الرفيق بولص أوديشو. هناك شيوعيون بالفطرة غير منظمين، يعملون بصمت ويكدحون ويساعدوننا نحن المنظمين، فوالدي مثلاً كان شيوعياً بالفطرة، لأنه كان يتحلى بأخلاق الشيوعيين، وكثير من أبناء جيله هم كذلك.
لقد كنت في عام 1958 شيوعيا بعواطفي، أما اليوم فأنا شيوعي بكل شيء، عواطفي وعقلي ومبادئي، لذلك أنا على يقين أن الشيوعية لا تموت، وفي كل بلد من البلدان سيكون هناك شيوعيون، لأن وجود الشيوعية مرتبط بالصراع بين الاشتراكية والرأسمالية، وطالما هذا الصراع قائم، فالشيوعيون موجودون. الشيوعية مثل حقول الكرمة، كلما اعتنينا بها أكثر، أورقت وأثمرت أكثر. والآن يوجد أفق كبير للشيوعية، لأن الشيوعية إنسانية بكل معنى الكلمة، ومن هنا تستمد أفقها، وكلٌ منا يلمس إنسانيتها، وأنا لمستها بعد عودتي للقرية، حيث ساعدني رفاقي لتجاوز صعوبة الوضع .
إن وحدة الشيوعيين ممكنة التحقيق، إذا توافرت لها إرادة الشيوعيين، وتخلت القيادات عن مكاسبها الضيقة. وأتمنى أن تتحقق هذه الوحدة في أقرب وقت ممكن.
أخيرا أود أن أوجّه تحيةً إلى رفيقة عمري «أم نضال» التي تحملت معي أعباء النضال السياسي وحياتي الحزبية والعامة. وأشكر صحيفة «قاسيون» على اهتمامها بالشيوعيين القدامى، وتراث نضالهم وتضحياتهم.