مشفى البيروني.. ملائكة الرحمة تطلب الرحمة
لاشكّ أن المشافي الحكومية كانت وماتزال الملجأ الرحيم والملاذ الأوحد للغالبية الساحقة من مرضى الشعب السوري الآخذين بالازدياد، وهي، رغم كل علاتها، تعد إحدى أبرز الإنجازات التي حققها الشعب السوري بعرقه وتضحياته، كما أنها من أهم العلامات المميزة التي تعكس ذهنية شعبنا ومجتمعنا، بوصفها عنواناً لمكارم أخلاقه ومستوى تحضره وتطوره وإنسانيته، بل وأكثر، فهي ظلت المثل والنموذج في المنطقة بأسرها على اعتبار أنها دون سواها، الاستشفاء فيها جيد ومجاني ومفتوح للسوريين وغير السوريين على السواء..
لكن أوضاع المشافي العامة تردت كثيراً في الآونة الأخيرة مع هيمنة (موضة) النيوليبرالية على جميع المرافق، وراحت معظمها تخسر الكثير من مزاياها وسماتها العامة وسمعتها، وانعكس ذلك سلباً على المرضى في مستوى وجدوى ومجانية العلاج، وعلى العاملين فيها من حيث الأجور والحوافز وتدابير الوقاية العامة.. ولعل القضية التي سنتطرق إليها في تحقيقنا هذا، وهي من مشفى البيروني بدمشق، خير دليل على المخاطر التي بدأت تحيق بهذه المشافي..
تحت الخطر..
تعد مشفى البيروني واحدة من أهم المشافي في سورية التي تقوم بمعالجة السرطانات بأنواعها، وقد أقامت إدارتها بين 15 – 17 آب 2008 دورة طبية تثقيفية للممرضات اللواتي يعملن في الحقن الدوائي، وكانت هذه الدورة التي حضر لها د. عبد الرحمن جازية، جادة وغنية بالمعلومات والإرشادات، ولكنها في الوقت نفسه، قرعت ناقوس الخطر للمشاركين فيها. فالممرضات اكتشفن مدى خطورة عملهن اليومي الذي يقمن به منذ سنين طويلة دون أية تدابير وقائية تذكر، بدءاً من حل الدواء الكيميائي، وحتى الحقن، انتهاءً برمي المخلفات الدوائية في القمامة.. هذا ما أكدته لنا ممرضات قسم الحقن في مشفى البيروني اللواتي سارعن لبث هموهن وتخوفاتهن وهواجسهن..
تؤكد لنا إحدى الممرضات أنها اكتشفت أن العنوان الوحيد لمسيرة عملها في المشفى هو استهتار إدارتها بحياة الممرضات، فأثناء الدورة أكد د. سامر غازي، وهو أحد المحاضرين، أن على الممرضات العاملات في الحقن ارتداء قفازات وكمامات ولباس خاص أثناء حل الدواء وحقنه خوفاً من الأبخرة المتناثرة من الدواء، وأنه يجب أن يحل الدواء في مكان مغلق، وضمن حاضنات خاصة كحاضنات الأطفال وبمواصفات نظامية من أجل الحماية، وهذا ما تفتقده الحاضنات، حتى تلك التي جلبوها مؤخراً بعد انتهاء الدورة، فهي عبارة عن صندوق مفتوح من الأمام لا يحمي الممرضات، ولا يمنع الرذاذ من التطاير في الجو.
تقول ممرضة أخرى: لا يوجد عندنا لباس خاص كالذي جرى الحديث عنه في الدورة، ولم نشاهد مثله نهائياًً.. وأكدت بألم: لو كنا نعرف مدى خطورة الدواء لكنا على الأقل، ارتدينا قفازات وكمامات على حسابنا، وذلك لحماية أنفسنا وأطفالنا، فكما عرفنا مؤخراً أن هذا الدواء يؤثر على الجينات في المستقبل المديد.. ولكن لجهلنا ولعدم معرفتنا، ولأنهم كانوا دوماً يقولون لنا إن هذا الدواء لا يضر، وليست له تأثيرات علينا، كنا نعمل بصورة اعتيادية، ودون حذر، ولكن اليوم اكتشفنا عكس ذلك تماماً، فأثناء الدورة بينما كانت إحدى الممرضات تقوم بحل الدواء بطريقة السكب كما اعتادت، قفز الدكتور غازي هارباً خارج الغرفة، وقال لكي تشفوا المرضى عليكن بحماية أنفسكن أولاً.
عمل طويل دون تدابير حماية
يقوم كل جناح في المشفى بحل ما لا يقل عن 45 ـ 65 جرعة يومياً من الأدوية والجرعات الكيميائية، وذلك بطريقة السكب بشكل مفتوح، ودون ارتداء لباس خاص يحمي من يقوم بالعملية، ولكم أن تتصوروا مدى الخطورة التي تتعرض لها الممرضات أثناء العمل اليومي المتكرر، وعبر سنين طويلة..
والحقيقة أن الخطر لا يطال الممرضات وحسب، بل يطال كل من في المشفى من أطباء وممرضات وكل الزوار والمرافقين وخصوصاً الأطفال، فأبواب المشفى مشرعة، وحسب إحدى الممرضات: المشفى هي عبارة عن «وكالة من غير بواب»..
تقول إحدى الممرضات لم يبق هناك ما نخاف عليه لأن «اللي ضرب ضرب.. »، لكننا نريد أن يكون هناك توعية بشكل دوري، وإجراءات سريعة من أجل الممرضات الآتيات من بعدنا للحد من أخطار الدواء، وليس التفاجؤ بالخطر بعد 20 عاماً من التعرض اليومي له في كل لحظة، كما حصل لنا.
ومن المسائل التي لا يمكن التغاضي عنها مطلقاً، انقطاع الماء عن المشفى من ساعتين وحتى أربع ساعات يومياً في معظم الأحيان، والخطورة هنا تكمن في الانسكاب الدوائي، فحسب معاونة المدير، يوجد في غرفة الحواضن فقط 10 ممرضات يحلون بين 200 إلى 250 جرعة يومياً، وكثيراً ما يحصل أن ينسكب الدواء على يد الممرضة التي تحله، دون أن تستطيع غسل يديها لإزالة الدواء عنهما!! تؤكد لنا إحدى الممرضات حدوث هذا الأمر مراراً .. ثم أخذت بالبكاء، وتساءلت بألم: هل حياة المريض أهم من حياة الممرضة؟؟
يذكر أن الوجبة الداعمة المخصصة للممرضات العاملات بالحقن هي حليب وبيض، ولكنهن لا يحصلن عليها إلا في فترات متباعدة، قد تمتد لأكثر من ثلاثة أشهر.
مطالب مشروعة.. وملحّة
عند لقائنا بعدد من ممرضات الحقن، ركزت مطالبهن على النقاط التالية:
1) تصنيفهن في قائمة العاملين بالأعمال الخطرة، أسوة بالعاملين في الطاقة الذرية.
2) تقليل ساعات عملهن وزيادة عدد الممرضات، وعدد المراكز الصحية لهذه المهمة.
3) زيادة طبيعة العمل، علماً أنها 42 %، وهذا المعدل قليل بالنسبة للعمل الذي يقمن به مقارنةً بطبيعة عمل الإداريين 35 %، وممرضات الأجنحة والعيادات 40 %.
4) تزويدهن بلباس خاص وواق يحميهن من شر السموم والأبخرة.
5) تأمين حاضنات مطابقة للمواصفات الطبية.
6) تسوية وضع الصرف الصحي وفصل دورات المياه المستخدمة من المرضى عن دورات الكادر الطبي، وإيجاد حل للمياه التي تنقطع حتى أربع ساعات في بعض الأيام.
7) إعادة الإجازة الشعاعية إلى ما كانت عليه سابقاً. إذا أنها كانت ستة أسابيع، من ثم تقلصت إلى أربعة أسابيع، ثم إلى ثلاثة أسابيع فقط!.
ما وراء الأرقام والإحصائيات
بلغ عدد المرضى المراجعين المشفى هذا العام حتى تاريخ 31/8/2008: 5271 مريضاً مقسمين على المحافظات كما يلي:
بالنظر إلى الجدول السابق نجد أن نصف المرضى من المناطق الشمالية، والشمالية الشرقية، وهؤلاء بالإضافة إلى مرضهم المرعب، يتكبدون أعباء السفر وطول الطريق والتكاليف المادية القاهرة والمستعصية على بعضهم، وعند وصولهم المشفى هنا، يبدأ العذاب الأعظم عندما تبدأ الإجراءات الروتينية القاتلة للحصول على جرعة الدواء..
ولا بأس من سوق بعض الأمثلة الحية على ذلك:
• المريضة /شما حمدان/ من محافظة الرقة عمرها 70 عاماً، تراجع المشفى أسبوعياً منذ ثلاث سنوات لتأخذ جرعة لا تستغرق ساعتين، مع العلم أن وضعها الصحي والنفسي والمادي سيئ للغاية.
• المريضة نعمات كرزون من محافظة حماة عمرها 55 عاماً، وضعها المادي معدوم، اضطرت للنوم على الأرض في استراحة المشفى، لأنها لم تنته من الإجراءات المتعلقة بصرف الدواء قبل انتهاء الدوام الرسمي، وجرعتها لا تستغرق أكثر من ساعة.
• الطفل علي موسى من محافظة الرقة، عمره 5 سنوات، والطفل صالح المحمد من محافظة الرقة أيضاً عمره 1.5 سنة، يراجعان المشفى كل 21 يوماً لأخذ جرعة دواء بطريق الدفش خلال خمس دقائق.
• ورده الأحمد العمر /50 سنة/ من حلب، قرية الزربة، أجرت عملية استئصال رحم. تتعالج منذ سنة بإشراف الدكتور ماهر سلموني، الوضع المادي سيئ، والمعالجة تتم مرة كل 15 يوماً.
وهناك العديد من الحالات المشابهة للأمثلة السابقة الذكر، تضطر للقدوم إلى دمشق وهي في أسوأ الحالات النفسية والجسدية والمادية، والسؤال: لماذا لا تقام مراكز علاجية، ولو صغيرة، لهذه الأمراض في المحافظات الأخرى، وخاصة البعيدة، لتجنيب المرضى الإرهاق والألم والمصاريف الكبيرة؟
أو ليس من الأجدر بالحكومة بدلاً من إنشاء منتجعات سياحية أو فنادق ضخمة أو مطاعم فاخرة للمترفين والمنتفخين والغرائزيين، بناء مشفى في مدينة حلب أو الرقة أو الحسكة خاص بالجرعات الكيميائية للتخفيف عن مرضى المناطق الشمالية عناء السفر وبعد المسافة، والتخفيف عن مشفى البيروني وكادره الطبي كل هذا الضغط كونه المشفى الوحيد في القطر الذي يعالج مرضى السرطان عن طريق الجرعات الكيميائية مجاناً؟؟
يبقى أن نقول إن مشفى البيروني تابع لوزارة التعليم العالي، وربما على وزارة الصحة أن تأخذ على عاتقها بناء مشفى موازٍ يساعد على تقديم العلاج، ويلبي ازدياد الحاجات الاستشفائية المتزايدة مع ازدياد عدد السكان.. وإلا فالمرضى الذين يأخذ عددهم بالازدياد نتيجة التلوث، لن يجدوا من يعالجهم..