القانون السوري.. ومحاباة الأعراف الاجتماعية البالية المادة 508 من قانون العقوبات السوري نموذجاً
يعد العرف مصدراً من مصادر القانون، إذ لابد للقانون أن يحترم أعراف وقيم الجماعة الإنسانية التي ينظم حياتها ويضبط سلوك أفرادها، لكي يضمن التزام الناس ببنوده.. هذا المفهوم واحد من المفاهيم التقليدية التي يتداولها طلاب وعلماء القانون، رغم أنه مفهومٌ شديد العمومية، وينقصه الكثير من الضبط والتحديد، فأية قيم وأعراف تلك التي يجب أن يحترمها ويكرسها القانون؟ ثم ألا يتفق الجميع على أن هناك أعرافاً تتعارض مع المدنية الحديثة، ومع مفهوم دولة المواطنة وسيادتها، لكونها أعرافاً متخلفة، وبالتالي يجب أن يتجاهلها القانون، بل وأن يعمل على قمعها وتأمين الظروف اللازمة لإزالتها من ضمير الجماعة الإنسانية؟.
إننا نجد في المادة 508 من قانون العقوبات السوري مثالاً صارخاً على قيام القانون بدور معاكس تماماً، من خلال تكريسه لقيم متخلفة، بدل القيام بالدور المناط به في هذا الاتجاه.
فعندما تتعرض فتاة للاغتصاب في مجتمع كمجتمعنا، تكون أولاً ضحيةً للمغتصب المثقل بأمراض يتحمل السيئ من الأعراف الاجتماعية المتردية المسؤولية الأولى عنها. وثانياً ضحية للمجتمع الذي سيحتقرها لأنها فقدت «شرفها» في عرفه المتوارث المتخلف. وهنا يكون الدور المباشر للقانون، العمل على وضع عقوبات قاسية رادعة لمرتكبي جرائم الاغتصاب، ويكون الدور الخفي الآخر للقانون، حماية هذه الضحية من أعراف المجتمع الذي يضطهدها. إلا أن المادة 508 من قانون العقوبات السوري تسير في اتجاه مغاير تماماً، إذ تنص على أنه «إذا عقد زواج صحيح بين مرتكب إحدى الجرائم الواردة في هذا الفصل وبين المعتدى عليها أوقفت الملاحقة، وإذا كان صدر حكم في القضية علق تنفيذ العقاب الذي فرض عليه». والجرائم المقصودة في هذه المادة هي جرائم الاغتصاب وإغواء القاصر المنصوص على عليها في المواد من 489 إلى 507.
وهكذا يكفي أن يتزوج المغتصب ضحيته، حتى يعفى من كل عقوبة، ويصبح ما بدأ بفعل اغتصاب حيواني، زواجاً مشروعاً يحميه القانون. وتتم هذه المهزلة الأخلاقية بمباركة أهل الفتاة المغتصبة ستراً للفضيحة، وبمباركة القانون صوناً لسمعة العائلات السورية، والتزاماً بأعرافها، وضماناً «للاستقرار الاجتماعي» وفق المبررات التي يسوقها فقهاء القانون لهذا النص المتخلف الذي ينضح بمفاهيم «الشرف» الذكوري الفارغ من أي مضمون، هذه المفاهيم التي كان يجب أن تدفن مع ركام القرون الوسطى.
وأول ما يقال في هذا النص من الزاوية الحقوقية، أن «كل ما بني على باطل يعد باطلاً»، فلا يجوز إذاً أن يتم إبرام عقد زواج يمهد بدوره لبناء أسرة على أساس فعل الاغتصاب الإجرامي. ولكن الأهم أن هذا النص يعني تكريس اختزال مفهوم الشرف في جسد المرأة، ويعني تجريم الضحية ومعاقبتها بدل جلادها، بل وتركها فريسة لهذا الجلاد. أما المبررات التي يستند إليها هذا النص فهي أسوأ من النص نفسه، لأن حماية القيم الاجتماعية والأعراف، مهمة منوطة بالقانون عندما تكون هذه القيم رافعة للأخلاق الاجتماعية. ومن ناحية أخرى فإن مهمة القانون في ضمان استقرار المجتمع، يجب أن تعني ضمان استقراره في معرض عملية نموه وتقدمه، لا أن تعني خنق تقدمه وارتقاء قيمه الأخلاقية، بنصوص تشرعن التخلف، وتحمي فعل الاغتصاب بكل أبعاده ومعانيه.
إن هذه المادة كارثة على الصعيد الحقوقي والأخلاقي، وجريمة مستمرة ترتكب من خلال نصوص قانون العقوبات السوري منذ أن تم إقراره عام 1949م، ويجب العمل اليوم بشكل جدي على إلغائها، من خلال المطالبة بذلك على جميع المنابر، وعبر جميع القنوات الشرعية. وإن هذا الإلغاء سيكون خطوة صغيرة في الاتجاه الصحيح، نأمل في حال حدوثها أن تؤسس مع الخطوة الصغيرة التي سبقتها في إلغاء المادة التي كانت تعطي عذراً محلاً لمرتكبي «جرائم الشرف»، لإعادة النظر في بنية القانون السوري، وفي أسلوب فهمه للظواهر الاجتماعية ومعالجته لها.
صحيح أن العرف يعتبر مصدراً من مصادر القانون، وصحيح أن القانون يجب أن يكون متناسباً مع القيم الثقافية والحضارية للجماعة الإنسانية التي ينظم حياتها. ولكن الصحيح أيضاً أن القانون يجب أن يكون ممراً للنهوض بهذه القيم، وضامناً للتقدم الآمن والمستقر للمجتمع. وعندما يتخلى القانون عن دوره هذا، فإنه لن يكون أكثر من أداة من أدوات القمع، في حين يفترض فيه أن يكون أداة لصون المجتمع، وضبط تقدمه بما يحقق أكبر قدر ممكن من العدالة والإنصاف.