هل أصبح التعليم مؤسسة تجارية خاصة؟ السياسات الحكومية أهملت القطاع التعليمي.. فأمسى قطاعاً متخلفاً
جاء في المادة السابعة والثلاثين من دستور الجمهورية العربية السورية: «التعليم حق تكفله الدولة، وهو مجاني في جميع مراحله، وإلزامي في مرحلته الابتدائية، وتعمل الدولة على مد الإلزام إلى مراحل أخرى، وتشرف على التعليم وتوجهه بما يحقق الربط بينه وبين حاجات المجتمع والإنتاج».. ومع ذلك فقد شهد واقع التعليم في سورية، تجاوُزاً على ما نص عليه الدستور، وخلافاً لما خططت له الخطط الخمسية العشر، تراجعاً كبيراً وخطيراً على الرغم من مبدأ مجانية التعليم، وإلزاميته حتى نهاية مرحلة التعليم الأساسي، وذلك بسبب عدم اهتمام الحكومات المتعاقبة بتطوير المناهج التعليمية، وعدم وجود الرغبة والجدية في العمل على ذلك، وأثبتت الحكومة الحالية التي هي نتاج ووليدة الحكومات السابقة، أن تطوير التعليم ليس من أساس أولوياتها، بل على العكس من ذلك، أثبتت عجزها عن حماية هذا المكسب الجماهيري، وحرمان السواد الأعظم من المواطنين منه، كحق مكتسب أقره الدستور.
التعليم والموازنة
أقرت الحكومة الميزانية العامة لعام 2010 بعد عرضها على مجلس الشعب والموافقة عليها، وقد بلغت 754 مليار ليرة سورية، خُصص منها للإنفاق الاستثماري في القطاع التعليمي 2.9%، أي مل يعادل واحد وعشرين ملياراً وسبعمائة وستة وستين مليون ليرة سورية، وبذلك تكون حصة الفرد الواحد من الميزانية العامة للعام 2010 في مجال التعليم قد بلغت 957 ليرة سورية، أو ما يعادل 21 دولاراً، بينما كانت في العام 2008 قد بلغت 54 دولاراً، وهذا مؤشر على تراجع الدولة عن اهتمامها بهذا القطاع الهام، ونيتها على التخلي عن دعمه تدريجياً وصولاً إلى خصخصته بشكل كامل، في إطار السياسة العامة للحكومة الداعية إلى سحب دور الدولة الرعائي من كل المفاصل الحياتية للمواطنين. ونرى أن حصة الفرد في سورية أقل بكثير من المخصص لحصة الفرد في بعض الدول التي بنيتها الاقتصادية تشبه بنية الاقتصاد السوري، مع أن الميزانية العامة لها اقل أو تساوي حجم الميزانية العامة في سورية، ففي تونس مثلاً بلغت حصة الفرد في القطاع التعليمي من الميزانية العامة 224 دولاراً، وفي السودان 116 دولاراً، وفي الأردن 295 دولاراً، بينما وصلت في إسبانيا إلى 1750 دولاراً.
الواقع التعليمي والتراجع المستمر
إن السياسات التي اتبعتها الحكومات المتتالية أوصلت المسيرة التعليمية الطويلة إلى نتائج سلبية قاتلة، وجعلت من التعليم أرضية عقيمة غير صالحة إلا للاستهلاك والبطالة، وحمّلت المواطنين عبئاً مادياً ومعنوياً أثقل كواهلهم إلى جانب الصعوبات الكبيرة الأخرى التي يواجهونها في الحياة المعيشية اليومية والتي أنتجتها السياسات الاقتصادية الهدامة الداعية بشكل حثيث لسحب دور الدولة الرعائي من كل مستلزمات الحياة التي تحتاج إلى الدعم كي يواجهها المواطن محتفظاً بالحد الأدنى من كرامته وحقه في الحياة الحرة الكريمة.
وقد ظهرت ملامح التدهور الكبير في أسوأ صورها خلال العقد الأخير، وكشفت عن واقع مزيف في الظاهر وفاسد في الجوهر، بعد أن سار التعليم في سورية شوطاً طويلاً يعاني من النمطية والاقتصار على المواد التقليدية المملة، وكانت أساليب التدريس والتعامل مع النتائج من السوء والإهمال بحيث أجبرت الكثير من الطلاب على البحث عن مفردات النقل والتلقين والغش، بدلاً من التوجه نحو التفكير والإبداع.
وأمام هذه الموازنة الرمزية المخصصة لوزارة التربية والتعليم، والتي يذهب معظمها لأثاث المكاتب والسيارات الفخمة ومصاريفها الكبيرة من المحروقات والإصلاحات، وأضيفت إلى ذلك في العقد الأخير صفقات أجهزة الحاسوب، وما يتخللها من فساد وعمولات وتلاعب بالأسعار وانتفاخ جيوب السماسرة على حساب الميزانية الحقيقية للتعليم، تراجع واقع المؤسسات التعليمية وخاصة الابتدائية منها، التي يعتمد عليها في تأسيس المراحل الأولى لنهل العلم والثقافة والمعارف العامة.
والجانب الأسوأ في السياسة المالية لوزارة التربية والتعليم أن طريقة توزيع المخصصات من الميزانية فيها نوع من الظلم وانعدام العدالة، حيث تكون الحصة الأكبر من الميزانية مخصصة للتعليم الفني، كالثانويات الفنية والتجارية والصناعية، بينما يتم حرمان التعليم العادي من كثير من مخصصاته، وذلك لأن باب الفساد والنهب في التعليم الفني أكبر، فهناك تتم الصفقات المشبوهة لشراء أجهزة الحاسوب وما تتضمنه من نهب للمال العام عن طريق التزوير في الفواتير والأسعار، وبالتالي تذهب الغالبية العظمى من المخصصات إلى جيوب الفاسدين والتجار.
واستهتار أيضاً
إضافة إلى التراجع الممنهج في اهتمام الحكومة بالتعليم، وتحويله إلى مؤسسة تجارية تمارس فيها كل أنواع المزايدات والمضاربات، فقد تجاهلت السياسات التعليمية جميع الظروف والقضايا المؤسِّسة لنهضة علمية تعليمية حقيقية قادرة على مواكبة النهوض العلمي العالمي والتقدم الحضاري والصناعي، واستهترت بالتعليم التربوي، فجعلت كليات التربية وإعداد المدرسين في الدرك الأسفل من جدول معدلات القبول الجامعي، ليكون الانتساب إليها قسرياً لأصحاب المجاميع المتدنية في الثانوية العامة، والأقل كفاءة في دراستهم وتحصيلهم العلمي. إضافة إلى أن الأسلوب المتبع في تعيين الكادر التوجيهي والإداري المشرف على العملية التربوية لم يكن مبنياً على أسس صحيحة قائمة على الكفاءة والقدرة، بل كان تحت ضغط الواسطات وعباءات المحسوبيات، وقد يكون أحياناً منصباً سياسياً مقترحاً من فوق.
إن التأسيس الخاطئ والإدارة السلبية للعملية التربوية بات واضحاً في نتائجها المدمرة التي أوصلت المؤسسات التعليمية والمدارس إلى وضع غير سوي وأماكن تمارس فيها الكثير من الممارسات اللاأخلاقية، بسبب وجود أشخاص لا شأن لهم بالعملية التربوية، بل انتسبوا إليها تحت ضغط الحياة الاقتصادية والاجتماعية المأزومة والمتدهورة.
نتائج سلبية وتطور وهمي
بناء على هذا الاستهتار الحكومي بالقطاع التعليمي كان من المنطقي الوصول إلى نتيجة سلبية، وحصد مجرد فقاعات وهمية بالتطور العلمي والتدريسي، بينما أصاب العملية التربوية في صميمها خلل فظيع أظهر الفشل الكبير للسياسات التعليمية المتبعة، وعرّى بشكل مخيف زيف النوايا في النظم والقوانين والسياسات الوصائية المشرفة على إدارة وتوجيه العملية التربوية.
يضاف إلى تلك المشاكل أن أعداداً كبيرة من العاطلين عن العمل المثقفين (بطالة مثقفة) أضيفت إلى سوق العمل، وخذلتهم الحكومات المتعاقبة في إيجاد وتأمين فرص العمل، ما أدى بالكثير من الأجيال الطالعة إلى العزوف عن التعلم نظراً لعدم ضمان مستقبل الخريجين، بعد العمل سنوات طويلة قد تمتد لأكثر من عقدين كاملين من بدايات العمر في نهل العلم وتحصيل الشهادات ليتشرد بعدها الخريجون في شوارع الحياة العاطلة عن العمل، بحثاً عن لقمة عيش كريمة قد تكون في غالب الأحيان لا تتناسب مع الخبرات والعلوم التي حصلوا عليها.
وكذلك فإن السياسات التعليمية المتبعة، والتي من بينها تدني مستوى أجور المعلمين، مثلهم مثل كل العاملين في الدولة، أبرزت ظاهرة إهمال المعلم لواجباته المدرسية، الأمر الذي ساهم في زيادة حاجة الطالب إلى الدروس الخصوصية، هذه الظاهرة التي تبلورت واتسعت لتشكل نمطاً في الحياة انضم إلى ظاهرة المعاهد الخاصة، وأصبح المعلم ذاته يتلكأ في الدروس المقررة في المدرسة، لينتقل ويقوم بواجبه بجدية كاملة في مكان وزمان آخر غير صفه ومدرسته. ويقدم نفسه كمنافس لغيره من المدرسين القديرين، في اختصاصه ذاته وأمام طلاب صفه أنفسهم، الأمر الذي أدى في النهاية لإفراغ المادة السابعة والثلاثين من الدستور من مضمونها وغايتها، ليصبح التعليم قطاعاً خاصاً وحقاً متاحاً فقط لمن تسمح له ظروفه المادية والمعنوية، وبدلاً من أن يكون للتعليم دور فاعل منتج وأساسي في عمليتي البناء والتنمية، يصبح قطاعاً خدمياً واستهلاكياً خاسراً، وبالتالي يصبح عبئاً على عملية الاستنهاض والنهوض الوطني، وعائقاً في طريق مواكبة التقدم العلمي الهائل الذي يشهده العالم المعاصر من حولنا.