يوسف البني يوسف البني

قصور الخدمات في القطاع الصحي.. أسبابه وخطورته الرعاية الصحية بين تراجع مخصصاتها من الموازنة.. والواقع السيئ

إن قضية الرعاية الصحية والعناية التي تقدمها الدولة لمواطنيها هي إحدى أهم المعايير التي تدل على درجة تطور هذه الدولة ولحاقها بركب الحضارة، وتعبر قبل ذلك عن احترام الدولة لمواطنيها واهتمامها بحقوقهم وسلامتهم وكرامتهم، وهناك دول عديدة وصلت بالخدمات الصحية درجة متقدمة (سورية ليست إحداها) بسبب اتباعها برامج للكشف الطبي الدوري لكل أفراد الأسرة في العيادات الأسرية، حتى أصبحت هذه الدول لا تخشى على مواطنيها من الأوبئة والجوائح إن كانت طبيعية أو مصنعة.
 
أما في سورية، حيث يعاني السواد الأعظم من المواطنين من الحالة الاقتصادية المتدنية والآخذة بالتراجع بشكل مستمر، بسبب فشل السياسات الاقتصادية في حماية معيشة المواطن، بل على العكس من ذلك فهي تسعى بشكل دائم لسحب دور الدولة الرعائي للمواطنين، فلولا وجود المشافي العامة والخدمات التي تقدمها لاستحال على الكثير من الأسر السورية الحصول على الرعاية الطبية اللازمة والعلاج الشافي. ومع ذلك فإن هذه الخدمات مهددة بالإلغاء بسبب تصريح الحكومة بنيتها على جعل مراجعة المشافي العامة والعلاج فيها مأجوراً كالعيادات والمشافي الخاصة، فلننظر إلى خطورة هذا الطرح وتأثيره السيئ على الوضع الصحي والمعيشي لعموم المواطنين على مساحة سورية.

 بعض التشريعات المتعلقة بالصحة

جاء في نص الدستور السوري: المادة 46:

1ـ تكفل الدولة كل مواطن وأسرته في حالات الطوارئ والمرض والعجز واليتم والشيخوخة.
2ـ تحمي الدول صحة المواطنين وتوفر لهم وسائل الوقاية والمعالجة والتداوي المجانية.
وجاء في المادة 47 من الدستور: تكفل الدولة الخدمات الثقافية والاجتماعية والصحية، وتعمل بشكل خاص على توفيرها في القرى والأرياف رفعاً لمستوى المواطنين فيها (الحياتية والخدمية).
وكذلك فإن سورية قد وقعت على الميثاق الدولي المتعلق بالحقوق الاقتصادية والثقافية والصحية، والذي تنص المادة /12/ منه على: (أن الدول الموقعة على هذا الميثاق تقر بحق كل مواطن في التمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية، ويجب على هذه الدول تهيئة الظروف التي من شأنها تأمين الخدمات الطبية والعناية الطبية للجميع في حال المرض).
أقرت الحكومة الموازنة العامة لعام 2010 بقيمة 754 مليار ليرة سورية، وتبلغ حصة قطاع الصحة منها حوالي 8.813 مليار ل.س، أي 1.16% فقط من الموازنة العامة، بينما كانت في العام 2008 قد بلغت 4.14%. وبلغ المخطط لحصة الفرد من الإنفاق الحكومي على الصحة في عام 2010 فقط 382 ل.س، أي ما يعادل 8.5 دولار،  منها 113 ليرة سورية حصة الفرد من الموازنة الاستثماريةبينما كانت في العام 2008 حوالي 48 دولاراً.
وقد قُسمت موازنة وزارة الصحة لتمويل اتجاهين: منها مليار و550 مليون ل.س للإنفاق الاستثماري الخاص بالمشاريع، و7 مليارات و263 مليون ل.س للإنفاق الجاري، خُصِّص منها ملياران و200 مليون ل.س لتمويل مخصصات أدوية الكبد والتصلب اللويحي (التهاب الجهاز العصبي يسبب اضطراب الجهاز المناعي) والتلاسيميا (فقر الدم المزمن) والسكري.
 
إحصائية نظرية.. ولكن

كان مخطط الحكومة في الخطة الخمسية العاشرة يسعى لتغطية جميع المناطق والمحافظات بالخدمات الصحية، بحيث يكون هناك مركز صحي لكل 10000 مواطن في الريف، ومركز لكل 20000 مواطن في المدينة، ولكن كان هناك تفاوت واضح في توزيع المراكز الصحية بين المحافظات، فتم إحداث 64 مركزاً في السنوات الأربع الأخيرة، وتم إنجاز 13 عيادة تخصصية شاملة في دمشق وريف دمشق وحلب وإدلب وحمص وحماه ودرعا. ويوجد في سورية 243 سيارة إسعاف حديثة، إضافة إلى 100 سيارة قديمة سيتم استبدالها بعد شراء 85 سيارة بتمويل من قرض مصرف الاستثمار الأوربي.
إن كل هذه الخطط لا تزال قاصرة عن تأمين الخدمات الصحية الكافية والضرورية للمواطن إذ يجب العمل على تغطية المناطق الريفية والبادية بسلسلة من العيادات المتنقلة، التي قُدِّمت للحكومة السورية كمنحة من منظمة الصحة العالمية. ويجب الإكثار من مراكز الإسعاف الطرقية على الطرق الخارجية التي تربط بين المحافظات. فكثير من الحوادث التي تقع على الطرق السريعة تؤدي إلى وقوع أعداد كبيرة من الضحايا نتيجة بعد أماكن الإسعاف وتعذر الوصول السريع إليها.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن بعض المشافي الخاصة تمتنع عن استقبال ضحايا الحوادث لأسباب غير معروفة، ما يجعل المصابين يواجهون خطر الموت دون اتخاذ إجراءات الإسعاف الأولي، وقد شهدنا أكثر من حالة أدت إلى وفاة المصابين بين نقلهم من مشفى اعتذر على استقبالهم إلى مشفى آخر، بينما كان يمكن إنقاذهم بلحظة ضمير، هذه مسألة تستحق الوقوف عندها والمساءلة فيها.
أما من جهة المشافي التخصصية، كأمراض القلب أو الكلية، وحتى المشافي العامة منها، فإنها ترهق المريض مادياً إضافة إلى مرضه، وقد يضطر لبيع كل ما يملكه للحصول على العلاج، وخاصة إذا كان يحتاج لعملية جراحة القلب المفتوح، فإن نجحت وعاش بعد العملية فسوف يكون من المُعدمين الذين يتسولون لقمة العيش، أو أنه سيتعرض لخطأ طبي مهني وهو تحت العملية يؤدي إلى وفاته فتتحول إلى الجريمة إلى «قضاء وقدر».
هذا بالإضافة إلى افتقار معظم المشافي في المحافظات لأجهزة غسيل الكلى، وأحياناً يضطر المريض رغم ثقل المرض عليه للسفر من محافظته إلى دمشق للحصول على العناية المطلوبة، مع ما يكلفه ذلك من مشقة وقلق وخطورة، وما يواجهه المريض من صعوبة في الحصول على دور بسبب تزايد أعداد المرضى وقلة المراكز التي تقدم هذه الرعاية، ما يعرض المريض لخطورة حقيقية.
مخابر التحليل الطبي ومراكز تصوير الأشعة والصيدليات المجانية ضمن المشافي العامة، أوقفت خدماتها للمواطنين منذ فترة طويلة، وأصبح المريض يتحمل التكاليف الباهظة لإجراء ما يلزم من تحاليل وصور أشعة، والحصول على الأدوية اللازمة بعد أن كانت هذه الخدمات من حقه الحصول عليها مجاناً في المشافي العامة...
 
إهمال متعمد أو تراجع عن الدور الرعائي؟
هذه صورة مصغرة للحالة الصحية العامة في سورية، وهذا انعكاس خطط الحكومة وبرامجها واقعاً ملموساً وخطيراً على صحة المواطنين، تراجع ملحوظ وبالغ الخطورة في اهتمام الحكومة بصحة المواطنين وتقديم الرعاية والخدمات الصحية التي أقرها الدستور حقاً مكتسباً ومشروعاً لعموم المواطنين، وبموازاة هذا التخفيض في ميزانية الخدمات الصحية التي يجب أن تقدمها الدولة للمواطن فوجئ المواطنون مع إطلالة العام الأخير من سنوات الخطة العاشرة برفع تسعيرة المعاينة الطبية بمعدل 50 ـ 70%، بعد قرار مجلس الوزراء تخفيض الزيادة التي أقرتها وزارة الصحة، والتي وصلت في البداية إلى معدلات 100% ـ 150%، وقد بلع المواطنون المقلب المقصود من المسرحية فقالوا: «بعض الشرَّين أهون من بعض».
إن القائمين على القرارات في الحكومة يلقون بخططهم وبرامجهم من أبراجهم العاجية، غير مدركين للواقع المعيشي السيئ للغالبية العظمى من الشعب السوري، الذي تراكمت عليه الظروف الاقتصادية والمناخية وقذفت بآلاف الأسر السورية إلى ما تحت عتبة خط الفقر، وكانوا قبل زيادة تعرفة أجور الكشف الطبي يحسبون ألف حساب قبل معاودة عيادة الطبيب.
هذه السياسة الرامية إلى تخلي الدولة عن رعاية ودعم المواطنين في مجال الرعاية والخدمات الصحية كما في باقي قطاعات الخدمات، مشكلة تضاف إلى الكثير من الصعوبات القديمة التي يعاني منها القطاع الصحي، والتي أهمها هجرة الأطباء الاختصاصيين والأدمغة العلمية إلى خارج القطر بسبب الحوافز الكبيرة التي تقدم لهم هناك ويحرمون منها في سورية، ومشكلة النقص في عدد السائقين والممرضين لعدم توفر الملاك الكافي لمنظومة الإسعاف، بسبب ابتعاد السائقين عن العمل في هذا المجال نظراً لصعوبات العمل ومشاقِّه، وعدم إيجاد نظام لتحفيز العاملين والتشجيع على استقدامهم. والمشكلة الأكبر التي يعاني منها القطاع الصحي هي نقص عدد المشافي العامة في الأرياف والمحافظات النائية، كما أنه توجد مشكلة كبيرة يسببها نقص الكادرات الطبية في المشافي خارج مراكز المحافظات، حيث هناك عزوف عن العمل فيها بسبب انعدام الحوافز.
 
نقص المعدات والتجهيزات الطبية للمشافي
إن القطاع الصحي الذي يجب أن يقدم الخدمات الصحية المجانية للشرائح الكبرى من المواطنين، والمتمثل بالمشافي العامة في المحافظات، يعاني من نقص كبير في المعدات والتجهيزات الطبية، والتي تم تحديدها حسب تقرير وزارة الصحة المقدم أمام مجلس الشعب كما يلي:
ـ خمسة عشر جهاز اًطبقياًمحورياً لجميع مراكز المحافظات في سورية، حيث أن الأجهزة القديمة في حالة أعطال دائمة.
ـ أحد عشر جهاز تفتيت حصيات لتغطية جميع المحافظات.
ـ خمسة أجهزة مرنان لمحافظات درعا، السويداء، الرقة، حلب واللاذقية. وحل مشكلة نقص أجهزة المرنان في حماة والحسكة وإدلب. وكذلك يجب تأمين جهاز مرنان لمديرية صحة ريف دمشق.
كما أن هناك نقصاً في وجود مشافٍ تخصصية في المناطق والمحافظات بسبب النقص الشديد في بعض الاختصاصات وهي: طب الأطفال، العينية، التوليد وأمراض النساء، القلب، الأورام، العصبية والعظمية.
ويتواكب هذا النقص في التجهيزات والخدمات والاختصاصات مع وجود بيانات تشير إلى الارتفاع المستمر في أعداد حالات أمراض القلب والأورام والكلية والسكري وغيرها، ووجود عجز كبير في موازنة الدواء وصل إلى أربعة مليارات ل.س، وهذا الرقم مرشح للزيادة.
ماذا بعد؟!
ماذا بعد التخفيض الكبير في حصة وزارة الصحة من الموزانة العامة؟! وماذا بعد انخفاض رصيد المواطن في الرعاية الصحية؟!
ماذا بعد الإهمال المتعمد لحالة المواطن المعيشية، وتحميله أعباء إضافية بزيادة تعرفة الكشف الطبي، التي لم يكن قادراً بالأصل على تحملها؟!
ماذا بعد الخطوات الحثيثة التي تتبعها الحكومة لخصخصة المرافق الصحية الهامة، وإجبار المريض للالتجاء إلى العيادات والمشافي الخاصة، نتيجة توقف الكثير من الخدمات الصحية في المشافي العامة؟!
بعد؟!.. نحن شعب نحب الحياة، ونصبر على الآلام والمرض، ونتحمل صعوبة الحياة...
لكن وبعد؟!