مطبّات طوبى للتي حفرت البئر

لم تزل عمتي (سبتة) بعينيها الصغيرتين الخضراوين تساكن الهواء القادم من الغرب، وتهوى النظر كعادتها إلى ما يمكن أن يرى من جبل الشيخ.

لم تزل (سبتة) تشبه مدينة مصادرة من وطننا يشاغب شعبها لاصطياد السردين ما بين المتوسط والأطلسي، وتطل على إرث كنا في زمن ما أسياده لا مستعمريه.

ما أخذني إلى سبتة (عمتي)، وجع التذكر، مناسبة النكسة، الوجع القادم من ذكر الخامس من حزيران، النسوة العابرات، منظر امرأة شقية، عجوز يهدها النعاس في الطريق إلى بيتها بوسيلة نقل، الرجل الذي صار متسولاً بعد أن كان كما يروي لا تفل قبضته قبيلة من الرجال.

سبتة... إرادة كل هؤلاء، امرأة خلعت أساور عرسها، ليرات الذهب من جيدها، خاتمها، مع أول آه انطلقت من حنجرة زوجها.

في بداية الثمانينات بنت مع زوجها بيت الأسرة، حملت على ظهرها أكياس الاسمنت، الرمل، التراب، البلوك، حتى انكسر.

بعد سنوات ليست بعيدة، باع زوجها البيت، اشترى أرضاً في (البرية) ليحقق أحلامه ببقرة وعدد من الدجاجات وسور من الحور، حملت سبتة عنه الحلم، وباعت ما جمعت من تعب، وبدأ مشوار بناء بيت جديد بمواصفات منسجمة مع روحها رغم العناء، وصار الحلم حقيقة... دجاج، زيتون، حور، دالية عنب، بقرتان..الخ.

كل ما تحقق كان ينقصه الأهم.. الماء، الرجل لم يكن يملك ما يحفر البئر، من قوة أو مال، وضع اليدين على الخدين منتظراً مخرجاً، نظر بالعين الواحدة إلى سبتة، جيدها، يديها الخشنتين، أصابعها، كانت كلها خاوية... لم يعد لدى سبتة ما تبيعه.

سبتة التي تشبه الرجال في الإصرار والتحدي، دون نقاش، لمجرد أن لمعت الفكرة في رأسها، شمرت عن ثوبها البدوي وعن ساعدين من تراب وجذور، وبدأت الحفر.. مع المتر الأول لم يكن يتوقع أحد ما الذي تفعله تلك الراسخة، هل جنت، بدأت الأمتار تزداد وصارت سبتة لا ترى، ما ينم عن وجودها هي أكوام التراب الذي صار يرتفع يوماً بعد يوم.

في المتر العاشر بدأت التباشير بالظهور، صار التراب رطباً، ممزوجاً بالماء، وله رائحة تشبه اليوم الماطر في صيف حار، وله مداس الطين، واشتمت المرأة التي تحب الماء والتحدي رائحة الحياة القادمة من عدم، الماء الذي غفلنا عنه، هدرناه على السيارات والمزارع والمسابح الساخنة، الماء الذي كان يأتي من دعاء واستغاثة.. من رجاء استسقاء غير مزيف.

جاء الماء من تحت كما السيل، ازدهرت الأرض، زرعت سبتة ما تشتهي من خضار وزيتون وعنب، سقت الأبقار والأغنام والديوك والدجاج، تربت الصيصان كأطفال يتامى في المزرعة الصغيرة، وفي هذا المكان تربى ولداها وكبرا..

مرت السنوات ولم تذبل العينان الخضراوان، وتخشنت الأيدي وصار انحناء صغير يمسك بظهر عمتي، وصارت تبيع الحليب الممزوج بطعم العشب، تهافت الجيران، الباحثون عن حليب ليس ممزوجاً بماء، وصارت ملتقى الهاربين من الشمس إلى فيء من شجر وماء، المشتاقين إلى حبة عنب فيها طعم العنب.

لتاريخه لم تزل سبتة المرأة التي حفرت البئر بساعدين فقط وإرادة لا تُحد، ممسكة بزمام الهواء الغربي، وبالحليب الصافي، الفيء الحقيقي، تراجع البئر، تمد يدها لتأخذ باليد التي تعيد للماء صفاءه، تساعد في انتزاع التراب من النبع، وترنو إلى جبل الشيخ بأوف طويلة.

خلف الجبل الذي ما زال عليه بعض الثلج، ولدت سبتة في أربعينيات القرن الماضي، حملت يتمها ونزوجها دون خجل، بظهر مستقيم وعناد على أن تعيش أينما حل الرحال، نقلت كل أحلامها، باعت كل الذهب الذي تتمناه أية امرأة، باعت كل الراحة والاسترخاء من أجل بئر أعاد الحياة لكل من حولها.

سبتة.. لا تحب التلفزيون، تحب سميرة توفيق، أغاني الحنين الباكية، غرسة فاصولياء، وجبة عشاء لبقرة جائعة في المساء، صوت الحليب الصادر عن ضرع حلوب، هدير الماء المتجدد في بئر.. النظرة الطويلة الحزينة إلى ذكريات ما وراء الجبل الشيخ.

من أجل نساء اليوم، المتسمرات أمام التلفزيون بحثاً (كاساندرا) وستار أكاديمي، فيديو كليب جديد لمطرب يشبههن، للنساء المتواريات وراء خديعة التربية الحديثة، الأسرة المثالية، تعلم الحياة الزوجية في خمسة أيام، النساء اللواتي سلبت منهن الحياة السريعة فن الحياة بإصرار وعناد، وخدعن بمدرسة الحرية فصرن أقناناً بإرادتهن.

سبتة... طوبى ليديك اللتين حفرتا البئر.

■ ع . د

آخر تعديل على الثلاثاء, 29 تشرين2/نوفمبر 2016 22:11