الصناعة السورية والاهتلاك الدفتري الجباية المالية تُحصّل ثـمن الأصول والمعدات عدة مرات
تعرضت الصناعة السورية على مدى عقود طويلة إلى ممارسات إعاقة، ومحاولات للتصفية والتهميش، وكانت الممارسة الأولى الظاهرة والشائعة فيها، الفساد والسرقة ونهب المال العام تحت حماية المنصب والتحكم بالمقدرات، والعامل الثاني الذي تعرضت له منذ عقود شركات القطاع العام، قرار وزارة المالية بترحيل الفوائض الاقتصادية الإنتاجية وأرباح الشركات إلى الخزينة العامة، على وعد بدعم هذه الشركات عند الحاجة، ولكن هذا لم يحصل. وما بين نهب الفاسدين ومصادرة الفوائض كانت تحصل عملية استنزاف متسلسل، وراحت المالية تجبي من الشركات ثمن الأصول والآلات والمعدات حسب برنامج الاهتلاك الدفتري، الذي يسدد ثمنها خلال العمر الإنتاجي لها، ولكن يستمر التسديد سنوياً ولعدة عقود، ما يؤمن تسديد الثمن أضعاف تكلفتها الحقيقية، على حساب الفائض والربحية للشركة المسدِّدة.
والاهتلاك في التعريف هو تقسيم تكلفة الأصل على حياته الإنتاجية بعد حسم قيمة النفاية الناتجة عنه في نهاية العمر الإنتاجي، وجمع هذه النسب للعمل على تبديل الأصل بأصول جديدة تسدد قيمتها من إنتاجه المجمع على مر السنوات. ولكن الذي يحصل أن المالية تستمر في تحصيل هذه الضريبة من الشركات مع استمرار الأصول القديمة بالعمل، وحتى لو فات على عمرها الإنتاجي عقود عديدة، وبذلك تكون الشركات قد سددت ضريبة غير مستحقة على حساب أرباحها وفوائضها الإنتاجية.
الاهتلاك الدفتري آفة تأكل الأصول
حسب النظام العربي المطبق في سورية، تنص القرارات على ما يلي:
1ـ تحسب أقساط الاهتلاك بالنسبة للآلات والمعدات على أساس ساعات العمل الفعلية لها، وهو 2400 ساعة عمل لكل واردية، في الصناعات التي تعمل طيلة أيام السنة.
2ـ إذا زادت ساعات العمل عن 2400 سا/سنوياً ونقصت عن 4800 سا/سنوياً، أي بواقع وارديتين، تزيد نسبة الاهتلاك بمعدل 1% عن النسبة الأساسية.
3ـ إذا زادت ساعات العمل عن 4800 سا/سنوياً، فإن نسبة الاهتلاك تزيد بمعدل 2%.
4ـ إذا تم اهتلاك الموجودات الثابتة «دفترياً»، يستمر احتساب قسط الاهتلاك عليها، ولكن بنسبة 50% من قسط الاهتلاك إلى أجل غير مسمى، حتى لو استمر عمل الآلات 40 عاماً.
ويسجل هذا الاهتلاك في حساب احتياطي ارتفاع أسعار الأصول الثابتة، ولا يوزع على مراكز التكلفة، وإنما تقفل في حساب الأرباح والخسائر، وتسجل أعباء الاهتلاك السنوية للأصول التي لها عمر إنتاجي (آلات، معدات، سيارات)، أما الأصول التي ليس لها عمر إنتاجي (كالأراضي، الثروة الحيوانية المتجددة) فلا تحسب لها أعباء اهتلاك، بل تدخل فقط ضمن الرأسمال الثابت.
قانون الاهتلاك بين التشريع والتنفيذ
يستخدم النظام المحاسبي الموحد في سورية الصادر بالمرسوم رقم /287/ تاريخ 25/1/1978 مصطلح الاهتلاك، للدلالة على الاستهلاك النهائي للأصول والآلات والمعدات، فإذا اشترى المشروع أو المنشأة آلة أو سيارة فإن هذه الآلة أو السيارة تعد رأسمالاً أو أصلاً ثابتاً يهتلك على عدة فترات محاسبية، ويتناسب اهتلاك كل فترة محاسبية مع عدد ساعات العمل للآلة أو عدد الكيلومترات التي قطعتها السيارة، في هذه الفترة المحاسبية، والتي تعتبر عادة دورة مالية واحدة (سنة مالية). وتحسب نتائج الدورة المالية من أرباح وفوائض بعد حسم ما استفادته هذه الدورة من الآلة أو السيارة لتكون الأرباح دقيقة وحقيقية، لأن الربح لا يكون حقيقياً إلا إذا تمت المحافظة على قيمة الأصول والرأسمال الثابت في نهاية الدورة كما كانت عليه في بداية الدورة، وذلك عن طريق جمع مخصص الاهتلاك السنوي الذي يتجمع في نهاية العمر الإنتاجي للأصل الثابت، ليصبح قادراً على استبدال الأصل القديم بأصل جديد يحافظ على المقدرة الإنتاجية للمنشأة واستمراريتها.
ولكن في سورية كثيراً ما تجاوز عَمَل الآلات العمر الإنتاجي لها بعقود، وجرى تشغيلها بدل العمر الإنتاجي الافتراضي، وهو غالباً خمس سنوات للسيارات وعشر سنوات للآلات، فترة قد تصل ثلاثين أو أربعين سنة. ومع ذلك تستمر خزينة المالية باحتساب الاهتلاك الدفتري عليها، ما يحقق تسديد ثمنها ثلاثة أو أربعة أضعاف.
إن خضوع المشروع أو المنشأة لتغيرات اقتصادية عالمية، أو ضغوط تضخمية، قد يجعل مخصصات الاهتلاك المجمعة في نهاية العمر الإنتاجي غير كافية لتبديل الأصل، ما يهدد استمرار المشروع ويعرضه للتصفية أو الإفلاس، وقد يكون هذا هو الدافع لدى بعض كتاب المحاسبة إلى الأخذ بقياس الاهتلاك على أساس (الفرصة المضاعة) التي تبنى على أساس (القيمة الاقتصادية) للأصل الثابت، دون الاكتفاء بتكلفته النقدية.
أنواع الاهتلاك
هناك ثلاثة أنواع للاهتلاك يمكن لعوائدها إذا تم توظيفها بالشكل والمكان الصحيحين، أن تتيح إعادة استثمار المنشأة دورياً، وهي:
1ـ الاهتلاك الرأسمالي أو التغطية: وهو استرداد قيمة الأصول المعنوية للمنشأة كالاسم والسمعة الناتجة عن براءات الاختراع والعلامة التجارية والأبحاث والتجارب، التي يُحمَّل اهتلاكها إلى حساب النتائج دورياً، خلال مدة تتناسب مع المدة القانونية المحددة لاهتلاك الحقوق. ويخضع لهذا النوع من الاهتلاك الشهرة والحملات الإعلانية ونفقات التأسيس، وحقوق الامتياز والتنقيب ومكافآت أو علاوات التوقيع أو الاكتشاف (كعقود شركات النفط)، ويحسب هذا الاهتلاك دون مراعاة ساعات التشغيل أو مهارة العاملين وتدريبهم.
2ـ الاهتلاك المادي: وهو الذي يحتسب للأصول المادية الثابتة كالآلات والمعدات والتجهيزات والأثاث والمباني والآليات والسيارات، ويتأثر هذا النوع بـ: تكلفة الأصل، مستوى التشغيل، وقيمة النفاية.
3ـ الاستنفاد: ويعبر عن النقص الذي يطرأ على قيمة الأصول المتناقصة، ويسمى معدل النفاد.
كيف يتم تقدير الاهتلاك السنوي؟
يتم التقدير من وقت لآخر، ويتم خفض قيمة الأصل أو زيادتها حسب تقديرات السوق، وتعالِج القرارات انتهاءَ العمر الدفتري للأصل مع استمراره في الإنتاج، ويعاد تقدير قيمته سنوياً، على أن تضاف قيمة الاستهلاك المقدرة سنوياً إلى حساب المخصصات أو الإيرادات، ومن الملاحظ عملياً عدم قدرة الأصل بعد انتهاء عمره الافتراضي على الإنتاجية بكفاءة، وأغلب الإدارات كانت تنفق على الصيانة مبالغ كبيرة، والأصل لم يكن يُستَغَل فعلاً في العملية الإنتاجية بالشكل الصحيح، وبقيت إعادة التقييم عملية معقدة تخلق الكثير من المشاكل، لذلك كان الكثير من المحاسبين يفضلون الاحتفاظ بالأصل بقيمته الدفترية، واستغلاله فيما بعد دون إهلاك حتى يتم استهلاكه بالكامل فعلياً، أو بيعه بأرباح محققة. والعمر الإنتاجي للأصل يقاس باستخدام وحدات زمنية مثل عدد من السنوات، أو على شكل وحدات منتجة، مثل عدد ساعات العمل للآلات أو الكيلومترات للسيارات. ويؤخذ في الحسبان العوامل التي تؤدي إلى تناقص عمر الأصل الطبيعية كالصدأ أو الرطوبة، والاقتصادية كالتقادم وعدم مسايرة الأصل للتطور في مجال عمله.
بماذا يتأثر الاهتلاك المادي؟
1ـ تكلفة الأصل: هي إما التكلفة النقدية التي تدفعها المنشأة لحيازة الأصل واستخدامه، وتشمل جميع المصاريف المدفوعة، من ثمن الشراء ومصاريف النقل ومصاريف التأمين والرسوم الجمركية وتكاليف التركيب، أو التكلفة الاقتصادية عبر العمر الإنتاجي للأصل التي تأخذ في الحسبان تغير مستوى الأسعار العامة بفعل التضخم أو الانكماش، أو تغير مستوى الأسعار الخاصة على نوع معين من الأصول، الذي يتأثر بالأوضاع الاقتصادية في صناعة محددة، وبالاختراعات التي تؤدي إلى تقادم الأصول بسرعة وظهور بدائل متطورة، فيحسب الاهتلاك حينئذ على أساس تكلفة الاستبدال.
2ـ مستوى التشغيل والتدريب: كتشغيل الأصل بشكل مستمر، 24 ساعة يومياً، ما يجعل العمر الإنتاجي أقصر من تشغيله بمعدل وردية واحدة، 8 ساعات يومياً. وإن تنفيذ برامج صيانة منظمة يؤدي إلى إطالة العمر الإنتاجي للأصل، وكذلك يفعل تدريب العاملين وحرصهم على أصول المشروع.
3ـ قيمة النفاية: هي القيمة التي يتوقع الحصول عليها من بيع الأصل عند انتهاء العمر الإنتاجي له. وقد تُهمَل هذه القيمة لأن تكاليف تحويل الأصل إلى خردة من فك ونقل، قد تساوي القيمة المادية التي يمكن الحصول عليها من بيع النفاية. وعلى العكس من ذلك قد يقتضي الأمر هدم وإزالة المباني المشيدة لإعادة الأرض إلى الحالة التي كانت عليها قبل بدء المشروع، حينها يجب إضافة تكاليف الهدم إلى تكلفة الأصول المشيدة، ويقسم المجموع على العمر الإنتاجي للحصول على قسط الاهتلاك الحقيقي والعادل.
الاهتلاك الدفتري المعوق الأول لتطور القطاع الحكومي
في مقابلة هاتفية مع أحد الباحثين الاقتصاديين في سورية قال: «من الصعب تحديد الاهتلاك الدفتري بشكل رقمي دقيق، ولكن بالإمكان حسابه كنسبة، وقبل ذلك لابد من توضيح جوهره وفق الرؤية الاقتصادية، حيث يعتبر الاهتلاك الدفتري من التكاليف الثابتة لأية منشأة اقتصادية، وهي تقدر عادة بـ10% من قيمة الأصول، آلات أو معدات، حيث يقدر العمر الإنتاجي لها بعشر سنوات، فلو افترضنا أن تكلفة آلة ما قد بلغت 1000000 ل.س فيكون معدل الاهتلاك 100000 ل.س لكل سنة، تضاف إلى التكلفة الثابتة للمشروع أو المنشأة. ولكن مع ظهور التطور العلمي السريع، ظهرت اختراعات وآلات قد تكون أقل سعراً من الأصل وأكثر جدوى اقتصادية، فيجب تنسيق الأصل حتى لو لم ينتهِ عمرها الإنتاجي، تماشياً مع سرعة الإنتاج وتطوره. ومن هنا فإن الاهتلاك على نوعين:
ـ الاهتلاك المعنوي المتعلق بسرعة التطور العلمي وظهور الاختراعات البديلة الأرخص والأكثر جدوى.
ـ الاهتلاك المادي الناتج عن تقادم زمن الآلة وأدائها نتيجة استخدامها، وتغير مواصفاتها الميكانيكية والفيزيائية.
ولكن عندنا في سورية اعتمدوا على الاهتلاك المادي وتجاهلوا الاهتلاك المعنوي، وتم تشغيل الآلات حتى بعد انتهاء عمرها الإنتاجي لعقود طويلة، ما سبب تخلفاً كبيراً في الصناعة السورية، وخاصة في القطاع العام عن ركب الصناعة العالمية. ففي أميركا أصبحت الجدوى الآن تقاس بالعمر التكنولوجي المقدرة بـ2.5 سنة، وفي أوربا بـ3 سنوات.
أما في سورية فقد استمروا باحتساب الاهتلاك حسب قرار وزارة المالية الذي يقول على استمرار احتساب اهتلاك الدفتري حتى بعد انتهاء العمر الإنتاجي للأصول، وحتى على الشركات المتوقفة أو المتعثرة، وإلى أجل غير مسمى، ولكن بعد تخفيض النسبة إلى 50%.
ولكن في مطلع هذا الشهر صدر قرار عن رئاسة مجلس الوزراء بتوقيف مبدأ احتساب الاهتلاك على الشركات المتوقفة أو على الأصول التي انتهى عمرها الإنتاجي، وهذا مبشر جداً وخطوة على الطريق الصحيح، ففي ظل الأزمة الإنتاجية العالمية هناك كثير من الصناعات لا تعمل، وكثير من الشركات تعثرت أو انخفض إنتاجها، فأصبحت تستنزف من الخارج لمصلحة الخزينة العامة. وأنا هنا أرى أن المعوق الأول لتطور شركات القطاع الصناعي الحكومي هو الأقساط الدفترية».
وحول بعض الشركات التي تجدد وتستبدل الأصول القديمة على حساب الأرباح الصافية، التي هي حق للعمال كمكافآت وحوافز إنتاجية، مع أنها تسدد للخزينة أقساط الاهتلاك، قال الباحث الاقتصادي:
«ليس هناك فصل بين المنشأة والعامل، ومن الضروري الدمج والتطابق بين كلا المصلحتين، وأنا من المتعصبين جداً لحقوق العمال التي يجب عدم التفريط بها، ومن المطلوب بإلحاح المحافظة على مواقع العمل في ظل هذه الموجه العالمية للخصخصة. والدور المطلوب من الدولة حالياً أن تعود كرب عمل متواجد دائماً لإدارة المنشأة ورعاية عمالها، وعلى العمال الحفاظ على منشآتهم. وهناك مثال يجب أن يحتذى، ففي شركة يابانية تعرضت لتعثرات اقتصادية، قام عمالها بالتبرع برواتبهم لدعمها ومساندتها، وعندما سئلوا عن هذا قالوا: صحيح نحن تخلينا عن رواتبنا، ولكننا حافظنا على لقمة عيشنا وارتباطنا بعملنا بقية حياتنا. أنا طبعاً لا أدعو العمال للتبرع برواتبهم للمنشآت المتعثرة، ولكن أقول إن مصلحة العامل هي ببقاء الشركة، والمحافظة على كلا القطاعين العام والخاص. ويجب أن ينتقل دور الدولة من الدور الوصائي إلى الدور التنموي، ودعم القطاعين معاً العام والخاص، فكما يوجد في القطاع العام شركات رابحة يوجد في القطاع الخاص شركات رابحة، والعكس صحيح، وبرأيي لا يمكن قيادة القطاع الحكومي بسياسة العرض والطلب، بل بمنطق المنفعة الحدية، ومنطق التكافؤ والعدالة بين الأسعار والأجور، وزيادة إنتاجية العمل، ويجب الدفاع عن القطاع الحكومي والمحافظة عليه، وأن يعالَج بعقلية الجرّاح وأن نضع العلاج المناسب لطبيعة الداء، فنحتاج إلى تحليل اقتصادي لكيفية إمكانية تطور عمل الشركة. وفي الظروف المستجدة لم يعد تدخُّل الدولة ترفاً فكرياً، بل أصبح ضرورة اقتصادية تتطلبها التطورات العالمية والداخلية في آن معاً.
إن بعض الليبراليين السوريين يطالبون بالتحرير الاقتصادي الكامل، إلا أن هذه الأفكار أثبتت فشلها، والآن حتى الدول الرأسمالية تسعى لاستعادة دور الدولة الحمائي، بعد أن بينت الأزمة الاقتصادية العالمية، بتداعياتها التي باتت معروفة للجميع، خطأ مفاهيم اقتصاد السوق التي بُشرنا بها طويلاً، فالصراع والمشادات الكلامية الأخيرة بين المستشارة الألمانية ميركل والرئيس الفرنسي ساركوزي كانت حول درجة الحمائية المطلوبة، حول دور كل دولة لحماية صناعتها، والجدل كان حاداً بين ميركل وساركوزي عندما اقترح الأخير 50 مليار يورو من أجل حماية صناعة السيارات في فرنسا.
وهنا أعود وأؤكد على دور الدولة لقيادة القطاع الحكومي بمنطق المنفعة الحدية، وإيجاد خطوات تنموية لزيادة إنتاجية العمل، وخلق العلاقة الحميمية بين العامل والمنشأة التي يعمل فيها.
لنا كلمة
إن الصناعة الوطنية هي عصب التنمية الاقتصادية، وهي في القطاع العام ضمان اقتصادي وأمان اجتماعي، ومورد لقمة العيش لشرائح كبيرة من المواطنين السوريين، لذا يجب الحفاظ عليها ودعمها للإقلاع مجدداً بعمليات الإنتاج على نحو متطور، وليس استنزافه أو وضع العصي في عجلة تطوره. وإن دعم الصناعة الوطنية وتشجيعها كفيل بتذليل الكثير من الصعوبات والضغوطات التي تتعرض لها الحياة المعيشية اليومية للسوريين..
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.