معهد التخطيط.. الصرح الذي حكم عليه بقطع اللسان

نشرت الزميلة «دي برس» بتاريخ 18/4/2010 تحقيقاً هاماً عن معهد التخطيط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، أعده الزميل عمر السيد أحمد وحمل عنوان «معهد التخطيط.. الصرح الذي حكم عليه بقطع اللسان».. نورده فيما يلي كاملاً لجديته وعمقه.

الأمل.. والخيبة

في مكان ما بعيداً عن دمشق، يقبع المعهد المسمى «معهد التخطيط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية»، وهو المعهد الذي لم تكن السنوات الطوال التي مضت على إنشائه سوى أرقام زادت من عمره دافعةً إياه إلى «أرذل العمر»، حيث عاش المعهد صغيراً، وشاخ صغيراً كما «خُطط» له أن يكون، فحرمه أولياؤه من «المصروف»، ومنع حتى من هيئة تدريسية تتبعه، وتحول إلى منفى تارةً وإلى باحث عن المساعدة تارةً أخرى..

معهد التخطيط.. بدأت مشكلته عندما تبّع إلى «خصمه» هيئة تخطيط الدولة بحسب الدكتور والباحث الاقتصادي قدري جميل، لتتحول الهيئة إلى وصي ورقيب علمي عليه، وبسبب هذا الوضع فقد المعهد استقلاليته وأبقته الهيئة حياً بالحدود الدنيا عبر إضعاف التمويل وحرمانه من الملاكات والمدرسين.

وعلى الرغم من أن المعهد يدرس في الدورة الواحدة أكثر من خمس وعشرين مادة إلا أنه ولسنوات طويلة اكتفى بشكل أو بآخر بدكتور واحد على ملاكه.. يقول د. نبيل خوري الذي استمر لعدة سنوات عميداً للمعهد: «كنت لسنوات الدكتور الوحيد على ملاك المعهد، أما الآن فلا يوجد أي دكتور في الموقع نفسه، وذلك على الرغم من أن مرسوم إحداث المعهد حدد وجود 23 مدرساً على ملاكه، والسبب أن شروط تعيين أي مدرس في المعهد تماثل الشروط لدخول الهيئة التدريسية للجامعات السورية، فيما تكون الحوافز المالية في المعهد شبه معدومة ولا تغري أي دكتور للانتساب إليه».

وحتى المدرسون الذين يحاضرون في المعهد كانوا يعملون بنظام الساعات وفقاً لخوري، ومنذ فترة قصيرة باتوا يتقاضون 400 ليرة عن المحاضرة بعد أن كانت 40 ليرة فيما سبق، وعلى الحالتين لا يزال الأجر قليلاً قياساً بمراكز الأبحاث والمعاهد المماثلة. 

نفي إلى الأرشيف

هذه الـ40 ليرة التي كانت تمنح لمدرس في معهد دراسات عليا جعلت من المدرسين متطوعين يقبلون قطع حوالي 20 كيلو متراً خارج دمشق لإلقاء محاضرة في المعهد وفقاً لمدرس آخر، ولعل هذا السبب هو ما أجبر إدارته على «تدليل» المحاضرين الذين يقبلون التدريس فيه عبر إرسال سيارة المعهد في حال وجودها إلى دمشق لاصطحاب المدرس ومن ثم إعادة توصيله بعد المحاضرة.

وللمعهد استخدامات أخرى تستفيد منها الهيئة قد تتجاوز اعتباره أرشيفاً ترسل إليه هذا الشخص أو ذاك، فيقول الدكتور نبيل مرزوق والذي درس في المعهد سنوات: «لم تنظر الهيئة إلى الكادر التدريسي ككادر مؤهل لهذه المهمة، وإنما أرسلت إليه بعض الأشخاص المؤهلين في الهيئة والذين لا تحتاجهم لعملها المباشر»، فيما يرى الدكتور قدري جميل أن الأمر يتجاوز ذلك إلى اعتباره منفى اتخذته الهيئة للتخلص من البعض بدلاً من رفده بكادر ثابت يقوم بمهامه.

النتيجة التي خرجت بعد كل هذا «الخنق» لم تكن مستغربة، فالدكتور والباحث الاقتصادي حيان سليمان يرى أن الهيكل التنظيمي في هذا المعهد يعيق الكثير من أعماله والمهام التي وجد من أجلها، سواءً من حيث الملاكات أو التبعيّة أو الرواتب والأجور والحوافز التي تعطى للمدرسين، ويضيف سليمان: «عندما أقارب بين هذا المعهد والمعاهد الأخرى أجد أن هناك فارقاً كبيراً جداً من حيث الحوافز الموجودة في كل منها، فمعهد مثل هذا المعهد يجب أن لا يقل قيمة عن معهد التخطيط الكويتي مثلاً، والذي تنتشر دراساته ويمول نفسه بنفسه من خلال الدراسات والأبحاث التي ينشرها».

وشاركه الدكتور قدري جميل الرأي حيث يرى ضرورة الاستفادة من المعهد في إعداد الدراسات التي يمكن أن تخدم أكثر من جهة في سورية تتعدى هيئة تخطيط الدولة إلى رئاسة الوزراء وحتى مجلس الشعب، إضافةً إلى كل جهة تعنى بالدراسات الاستراتيجية والتطبيقات الاجتماعية والاقتصادية. 

موت سريري

وعند سماع المهام التي يفترض من المعهد القيام بها لم يتمكن طلابه من كتم ابتسامة أطلقها التباين الشديد بين ما أنشئ المعهد من أجله وما هو عليه في الواقع، فأي أبحاث سيقوم بها المعهد بتجهيزات شبه معدومة على حد تعبير الطالب المتخرج حديثاً من المعهد ياسر زحيلق والذي يضيف: «المعهد غير مزود بقاعة إنترنت، والمكتبة قديمة المحتوى ولا تضم مراجع كافية في الوقت الذي تحتوي فيه باقي المعاهد مكتبات حديثة تليق بمستواها البحثي».

فيما يتحدث الطالب أحمد إدريس والذي تخرج أيضاً من المعهد، عن غياب البعثات لطلاب المعهد وعدم تقديم هذا النوع من الحوافز للمتفوقين، كإرسال الطلاب الأوائل إلى معهد التخطيط القومي بمصر مثلاً، أو حتى تمكين خريجيه من متابعة دراستهم للحصول على شهادات أعلى في جامعة دمشق.

أمور كهذه قد لا تشهر المشكلة كاملة على حد تعبير أحد الطلاب الحاليين في المعهد، فعلى الرغم من اعتباره معهداً للدراسات العليا إلا أن نظام التدريس فيه يشبه في كثير من الأحيان أي معهد متوسط، فيفتقر إلى ورشات العمل ولا يراعي تنوع اختصاصات الطلاب الذين يدرسون فيه، بالإضافة إلى المشكلة الأهم وهي مشكلة شهادة الدبلوم التي ما زال يمنحها في الوقت الذي حولت كافة الكليات شهاداتها إلى ماجستير.

الأمر الذي لا ينكره الدكتور نبيل خوري وهو الذي كان لفترة سابقة عميداً للمعهد، يقول خوري: «يجب إعادة النظر بوضع المعهد وإعداد مرسوم يتلاءم ومهام المعهد ويتلافى موضوع التمويل والملاكات، يفترض أن يكون هناك 120 باحثاً للقيام بهذه المهام، من باحثين وأساتذة وبإمكانه استقطاب عدد أكبر من الطلاب».

يضيف خوري: «حتى تتم عملية التدريس بشكل أفضل يفترض أن يقدم خدمات ضرورية للطلاب والأساتذة، فللطلاب ينبغي أن يقدم مسكناً أسوة بباقي المعاهد كمعهد (INA) مثلاً بالإضافة إلى تأمين مستلزمات البحث والدراسة من قاعات ومكتبة وغيرها مما يعجز المعهد عن تأمينه، فعدم وجود مسكن للطلاب تسبب باقتصار الطلاب لفترة من الفترات على سكان دمشق فقط، فيما يفقد الباحث الموظف لدى الدولة الحوافز والتعويضات في فترة دراسته عوضاً عن تقديم المزيد منها».

أصابع الاتهام في كل مرة تتوجه نحو هيئة التخطيط التي يجمع الطلاب والمدرسون على أنها فرضت نزع الصفة الأكاديمية عنه بشكل غير مباشر رغم أنه يمنح شهادة دبلوم بالتخطيط، وذلك نتيجةً لعدم وجود مرجعية علمية معترف بها وذات سلطة علمية وتنظيمية تشرف على البرامج والمناهج التعليمية، بالإضافة إلى «ضعف» تمثيل جامعة دمشق في مجلس إدارته والإشراف عليه. 

مكانك راوح

الزمن في معهد التخطيط توقف لفترة طويلة، باستثناء أوقات قليلة استفاق فيها لينظر حوله ويدرك أن القيود التي تحيط به ليست مجرد عرقلة بسيطة ثم لا يلبث أن يعود ليغط في سباته، فحتى الميزات التي منحها المعهد لطلابه من موظفي القطاع العام توقفت عند لحظة منحها، فالمشرع كما يقول الدكتور خوري: «أعطى الخريج حوافز مادية وشهادة دبلوم تمنحه درجة ترفيع استثنائية، حيث يحصل الخريج على زيادة 5% من الراتب وكانت تشكل نسبة كبيرة ولها قيمتها في الثمانينيات عندما طبقت، أما اليوم فالأمر بات بحاجة إلى تعديل، حيث أن نسبة 5% من الراتب يحصل عليها أي موظف حتى الموظف الكسول، فيما يحصل خريج المعهد الوطني للإدارة العامة (INA) على ترفيع 75%».

ويتابع الدكتور خوري قائلاً: «بعد إحداث المعهد أنشئ عدد من المعاهد والجهات التي تمنح شهادة الدبلوم والماجستير والدكتوراه فيما لا يزل معهد التخطيط في مكانه»، الأمر الذي يوافقه عليه الدكتور حيان سليمان الذي يرى أن التطورات الاقتصادية الأخيرة تدفع إلى أن ينطلق المعهد إلى موقع أكثر تطوراً، فواقع سورية تغير ولا بد من الاستفادة من قدرة معهد التخطيط في الوقت الذي يفتقر فيه البلد إلى مراكز الدراسات والمعاهد البحثية على حد تعبيره.

 

«هناك جهات مستفيدة من تعطيل المعهد»، جملة لم يتمكن الدكتور خوري من كتمانها، وهو الذي أمضى سنوات فيه وهو يعلم أن هناك من لا يقبل حتى تسميته معهد تخطيط وحاول تعديل اسمه، وأعاق انعقاد مجلس إدارته لسنوات، وهذه الجهات كما يصفها خوري تهتم نظرياً بالمعهد ولكنها عملياً تفعل العكس..

وجهة نظر الدكتور خوري قد تتقاطع بعض الشيء مع ما يراه الدكتور نبيل مرزوق بأن الحكومة لا ترى أهمية لدور المعهد وإمكانية الاستفادة منه في الدراسات والبحوث وموقفها غير مشجع لتطويره، وهذا نابع من رؤية الوزارات والمؤسسات العلمية في التخطيط ككل، فلم تعط التخطيط الأهمية الكافية، ويتابع مرزوق: «القائمون على المعهد والمدرسون فيه يرون أنهم لم يمنحوا الفرصة أصلاً لإثبات فاعلية المعهد، والأمر أشبه بدائرة مفرغة ينظر كل من طرفيها إلى الآخر على أنه مقصر».

الجميع اتفقوا على أنه «لا يجوز أن نبقى جامدين في مكاننا»، وأضاف عليها الدكتور حيان سليمان: «كلما زادت الاستقلالية لأي معهد كلما أصبح أكثر قدرة على العطاء، ويجب أن تدرس تبعيته وتوضع في الميزان بقالب علمي»، وبرأيي - يضيف سليمان - يجب أن لا يكون المعهد كأي إدارة من مديريات الهيئة، يجب أن يكون له خصوصية معينة فطبيعة عمله هي طبيعة علمية - فكرية وليست إجرائية وله خصوصية معينة، وعندما يتطور المعهد كلنا سنستفيد من خلال ما سيقدمه للبلد.