الشِّيخ صالح العلي.. قائدُ ثورة الفقراء ضد الاستعمار

كان الشيخ صالح العلي مناضلاً من هذه الأمة، منتمياً لها، منفذاً لإرادة أبنائها، استطاع أن يتوسم بحدسه ما تتطلع إليه، مؤكداً أن الزعامة الناجحة تعتمد على بصيرة نافذة وقراءة عميقة للحوادث أكثر مما تعتمد على أمور أخرى. كان نضاله واضح الرؤية والهدف، انطلق عندما اقتحمت دورية من الدرك الأتراك قرية (كاف الجاع)، وقاموا بإهانة الأهالي وتحطيم ما وصلت إليه أياديهم وسلب مؤن الفلاحين، فهب الشيخ، وقتل ثلاثة منهم وأعاد المؤن المنهوبة إلى أصحابها، وأخذ سلاح وذخيرة المعتدين القتلى.

سرعان ما انتشرت قصص الحادثة، وأدرك الشيخ بأن الأتراك سيبحثون عنه لاعتقاله ومحاكمته، وبالتالي قتله، فذهب إلى لبنان والتقى (شكيب أرسلان) واشترى الأسلحة والذخيرة لرجاله، وأعلن ثورته، وكانت أكبر معركة بين الثوار والأتراك معركة (وادي العيون)، عندما اشتبكوا مع مجموعة كبيرة من الدرك المدججين بالسلاح، فقتلوا ما لا يقل عن ثمانين منهم، ولاحقوا البقية بين الأودية، وقتل في هذه المعركة بعض النسوة الثائرات.

في فترة الاحتلال الفرنسي، كان الشيخ ينسق مع الأمير فيصل عبر رسل، وطلب إليهم تبليغ الأمير أن صالح العلي يحسب لنوايا الفرنسيين مائة حساب، وأنه بادر لاتخاذ الاحتياطات اللازمة. أول معركة قادها ضد الفرنسيين عندما أمروا قواتهم في (القدموس) بالتوجه لاحتلال (الشيخ بدر)، أي معقل الشيخ، لقتله أو اعتقاله، فكمن الشيخ لهذه الحملة مع ستة من المقاتلين فقط في منطقة وعرة جداً (وطن النيحة) غرب (وادي العيون)، فقتلوا منهم لا يقل عن 35 جندياً وأسقطوا عدة جرحى وكسبوا غنائمهم، وهنا ازداد عدد المتطوعين في صفوف الثورة، ووصلت إلى الشيخ رسالة من الجنرال الفرنسي (سومرست) نائب الجنرال (اللنبي)، يطالبه بدفع الدية عن كل قتيل وجريح بارودة حربية ومائة خرطوشة، وبعد رفض الرسالة ومطالبها، وجهت القيادة الفرنسية حملة ثانية لاحتلال الشيخ بدر، فكمن الثوار لها، واشتبكوا معها بمعركة قصيرة أسفرت عن سقوط 48 قتيلاً وجريحاً من المستعمرين.

اجتمعت القيادة العامة لجيوش الحلفاء في الشرق، وأرسل الجنرال اللنبي رسالة إلى الشيخ لم تخل من عبارات الرجاء والإلحاح، طالباً من الشيخ السماح للقوات الفرنسية المرابطة في القدموس بالمرور عن طريق الشيخ بدر إلى طرطوس، متعهداً ألا يقف هذا الجيش في الطريق أكثر من ساعة واحدة ليشرب وينال قسطا من الراحة، فوافق الشيخ مع أخذ كل الاحتياطات، لكن القوات الفرنسية ما إن وصلت إلى الشيخ بدر حتى نصبت المدافع وبدأت تقصف وتدمر دون تمييز، فانقض الثوار على الجيش غاضبين، وخلال معركة قصيرة دب الذعر في صفوف الفرنسيين وقتل وجرح الكثير منهم، وفر الباقي هاربين.

لكن أهم المعارك كانت في وادي (ورور) مع الحملة الفرنسية بقيادة (الكولونيل جان) عندما استخدم الشيخ تكتيك أدى لفصل قوات الحملة في المقدمة عن المؤخرة، وبدأت المدفعية تطلق حممها بشكل عشوائي والجنود الفرنسيون يقنصون بعضهم بعضاً، وسقط ما لا يقل عن 800 قتيل فرنسي وشاركت النسوة في هذه المعركة ومنها المجاهدة عزيزة خير بك.

قامت القوات الفرنسية بردة فعل عنيفة، فنكلت بالقرى التي ساعدته وهدمت البيوت وأحرقت محاصيل وخاصة في قرية (قلعة الخوابي)، لكنه تصدى لها وجعلها تتقهقر، ونتيجة للخسائر التي مني بها الفرنسيون تحطم كبرياؤهم وأرسلوا وسيطا بإقناع الشيخ للتفاوض، فوافق الشيخ على مقابلة الوسيط البريطاني وإعلان الصلح على الأسس الثلاثة التالية:

1- الجلاء عن الساحل السوري، والموافقة على ضمه إلى حكومة الشام.

2- إطلاق سراح الأسرى من الفريقين.

3- دفع تعويضات عن الأضرار التي ألحقها الجيش بالقرى التي أحرقها أو مر بها.

رفضت وزارة الحربية الفرنسية شروط الصلح، ووبخت القيادة الفرنسية العاملة في الشرق الأوسط لإذلالها من فلاح فقير.

■ محمد سلوم