مواسم حصاد الخيبة.. فلاحو الغاب يدفعون ثـمن إهمال الزراعة وتشجيع المستثمرين
حال معيشتنا من سيىء إلى أسوأ، وحال اقتصادنا من تراجع إلى آخر, الأرقام فقط هي التي تتحدث ليصمت معها، أو يتوارى بعض الإعلام الذي رمى وراء ظهره مصلحة المجتمع وراح يمسح جوخ أولياء النعمة، خلف ظله..
فالفريق الاقتصادي حرر الحكومة من كل التزام تجاه الشرائح الاجتماعية الكادحة، وتجاه الفقراء المسحوقين تحت عجلات قاطرات الانفتاح، وتملص من مسؤولياته الاجتماعية عبر تغيير المعادلات وجرف خيرات البلاد إلى حضن الأقوياء من كبار لصوص النهار الذين تحميهم قوانين موجة الليبرالية المتأخرة التي جرفت أحلام الناس ومكاسبهم المتراكمة عبر السنين..
جولات وجولات لهذا الوزير أو ذاك، يلقي كل منهم فيها المحاضرات، حتى حار الناس من يرسم مستقبل البلاد أحجار «الودع» وعَرًافاته أم الفريق الاقتصادي؟ وما الفرق بينهما!؟ فزيادة ثروة الأثرياء هي مقياس النمو عند الأوصياء على اقتصادنا, ومؤشر رفاهية الفقراء قدرتهم على اقتناء موبايل أو ثلاجة... أرقام تنثر كحبات الرز فتغدو أفراحنا مآتم تتجسد في اللحظة التي يتركنا المحاضر ويختفي وراء البلور المعتم!.
إن أهم الأرقام التي سقطت قبل تدوينها رسمياً في سجل التنجيم هو رقم 5 ملايين طن لإنتاج القمح المتوقع لهذا الموسم حسب نشرة فريق العََرافات، ولكن إلى حين، أي حتى لحظة حساب «الغلة بالسلة».. وكم كنا نتمنى أن تتحقق نبوءات «الودع»، ولكن تؤخذ الدنيا غلابا.. الفلاحون الغلابة صدقوا تحت ضغط الحاجة والرغبة أن نسبة الأضرار في حقولهم لن تتجاوز 24% لأن وزير الزراعة رمى أحجاره في حقول القمح لترسم 8% لذلك ضاعف الفلاحون الرقم تحت ضغط الرغبة في البقاء, لكن مع بدء موسم الحصاد لم يعد للأماني والرغبات من مكان ولا «لأحجار الودع» أيضاً.. مشت الحصادات في حقول القمح.. خرجت الحصادات من الحقول بلا قمح!! و كما مشت مشينا، ورحنا نستطلع آراء المغبونين ونشاركهم الوجع.
شهادات مؤلمة
بعد أن رد التحية بصوت منخفض كإنتاج أرض حنطته, وحبات القمح الضامرة تجمعت على راحة كفه الخشنة, قال: «انظر هذه حنطتنا».. ويشير بيده الأخرى إلى تسعة أكياس من النايلون مملوءة بالقمح، «إنها حصاد الموسم».. إنه عبد الرزاق سلوم، فلاح من بلدة شطحة المحرومة من مياه الري وحتى الشرب رغم غرق أراضيها الزراعية شتاء.. ويضيف: «زرعت هذا الموسم 25 دونم قمح، 16 منها أرضاً خصبة، فأنتجت 29 كيساً وتسعة دونمات أرضاً أقل خصوبة أنتجت ما ترونه 9 شوالات تكلفة نقلها إلى الصوامع بعد تجميعها في البيت لأن الأرض ليست قطعة واحدة، 2000 ل.س تجميع، وحوالي 1000 ل.س أجور عتالة، يضاف إليها 3000 ل.س نقل إلى الصوامع، يضاف إليها أجور الحصادة 12500 ل.س.. هذا عدا كلفة الفلاحة والسماد ورش المبيدات الكيماوية. فما الذي يبقى للفلاح؟ الله يساعدنا!! تدهورت حالتنا في السنوات الأخيرة، وعلى هذه الحالة لن أحصل على كلفة الإنتاج».. ثم طالب الحكومة بالمساعدة العاجلة لأن الأمر لا يحتمل التأخير، إذ لديه 11 ولداً.. يسأل: «من أين سيعيشون؟ وكيف لي أن أعيد زراعة أرضي في الموسم القادم؟، ففي العام الماضي كان إنتاج الدونم الواحد حوالي 600كغ، أما هذا العام فلن يصل إلى 200كغ».
الفلاح محمد إبراهيم يقول: «أملك أربعة دونمات أنتجت أربعة شوالات، كل شوال 100 كغ، الحصادة 500 ل.س عن كل دونم حصاد مع تبن وبدون تبن 300ل.س، يباع كغ من التبن بليرة واحدة مما يعني أننا نقع تحت عجز بنحو 4000ل.س عن كل دونم!! الله يصلح وزارة الزراعة وتقديراتها فعبر إرشادياتها قدرت الأضرار بنحو 35% في حين أن الضرر الذي لحق القمح اتضح أنه أكثر من 90%، إذا قارنا الإنتاج لهذا العام مع إنتاج العام الماضي كل دونم 100كغ، في حين في العام الماضي كان إنتاج الدونم 600-800 كغ، وقول وزير الزراعة إن نسبة الإصابة 8% هو تقدير خاطئ بكل تأكيد، الصوامع تستلم إنتاجنا اليوم على انه علف، لأن القمح المنتج ذو حبوب ضامرة (مسفوحة) فيتصنف درجة أخيرة!. فلو حسبنا قيمة الإنتاج مع تكاليف الحصاد والنقل يمكن أن تكون النتيجة في أحسن الأحوال (راس بعب).. وهكذا ضاع تعب الفلاح ووجه الكلام إلى الحكومة «أين الدعم الذي ثقبتم آذاننا به صباح مساء فلتعر الحكومة انتباهها للفلاحين والزراعة التي ستنقرض ومعها الفلاح إذا استمر الوضع على هذه الحال فلا مياه للري ولا تشجيع للإنتاج الزراعي.. الشوندر السكري مثلاً، لو قمت بجولة على هذه الأراضي فمن الصعب العثور على حقل شوندر لأن زراعته لم تعد مجدية بعد الخسائر المتكررة التي لحقت بالفلاحين الذين كرهوا زراعته.. غريب أمر هذه الحكومة، فإلى أين تريد أخذ البلاد؟ الفلاح أيام زمان، يعني منذ عشر سنوات كان يستطيع أن يعوض بعض الخسائر لوجود المياه، فكان يزرع الخضار من بندورة وخيار وباذنجان بالإضافة إلى البطيخ الأحمر والأصفر وبعض المزروعات الصيفية الأخرى كعباد الشمس والذرة البيضاء والصفراء، أما الآن فيا حسرة! أراضينا صارت صحراء».
حشد من الغاضبين
حشد من الفلاحين الذين تحلقوا حولنا في الأراضي الزراعية التابعة لبلدة شطحة راحوا يصرخون هازئين: «الموسم ولا أحلى من هيك!!» أحدهم: «بكرة الدولة بتعوض على الفلاحين ضعف ماخسروه».. يتدخل بعض الفلاحين متحدثين بتشنج وبوجوه مغتاظة وأصوات حادة وساخرة: «روح إلى حكومتك وقول لها الفلاحين ماتوا من الجوع..». ولم تهدأ أعصابهم إلا بعد أن أخبرناهم أننا لسنا صحيفة حكومية، فاستأنفوا الحديث بعد بضع شتائم... أصوات تعلو وأخرى تتلاشى، وكل منها يوافق الآخر بان إنتاج الدونم الواحد يتراوح بين 50-175 كغ، وقد ذكروا أن بعض هذه الأراضي تستهلك من بذار القمح 40كغ، ويبقى للفلاح 10كغ، والكثير منهم ندم على حصاد أرضه ووقع بمشكلة تسديد أجرة الحصادة .
بعض أصحاب الحصادات رفض الحديث معنا وأشاح بوجهه بعيداً عنا كي لا يظهر وجهه في الصورة التي لم نكن نسعى إليها، ولم نكن لنعلم سر هذا التصرف لولا أن أحدهم أخبرنا أن ذلك يعود إلى خوفه من الضريبة على حصادته التي يبدو أنها غير مسجلة رسمياً، واخبرنا أن أجور الدونم الواحد لهذا العام تتراوح بين 300-750 ل.س حسب رغبة الفلاح فيما إذا أراد الحصول على التبن أم لا، بينما في العام الماضي، كانت الأجور تصل إلى 1100 ل.س في بعض الأحيان وذلك حسب اضطرار الفلاح ومدى توافر الحصادات، إلا انه من الواضح في هذا الموسم أن الأسعار انخفضت مع تدني إنتاج القمح والتي ربما تصل في حدها الأعلى 400 ل.س نظراً لعزوف بعض الفلاحين عن حصاد حقولهم بعدما رأوا حصيلة إنتاج جيرانهم من القمح، والتي لم تتجاوز 50 كغ للدونم الواحد.
أحد الفلاحين تكلم بصوته الجبلي الهادر وحركات يديه الحادة تشبه مناجل الحصاد وتفصح عما لحق بالفلاحين من ضيم وقهر واحتقان: «الحرامية.. أولاد الحرام لم يبقوا لنا ما نأكله بعدما حرمونا من كل ما يحفظ كرامتنا.. الحكومة تنظر إلى الفلاح نظرة دونية وتعده جاهلاً وتنسى أنه هو من يوفر الغذاء لمن يتربعون على كراسي النهب والكذب.. أنا على يقين أن الحكومة تستطيع أن تدعمنا ولكنها لن تفعل ذلك عن طيب خاطر.. زمن الزراعة والفلاحين وهذا زمن المستثمرين»..
أخصب أراض.. وأضعف إنتاج!
تعد منطقة الغاب من الأراضي الزراعية الخصبة، وأخصب هذه الأراضي تلك الممتدة على طرفي نهر العاصي قبل أن تتقطع أوصاله، ويعدم بقرار رسمي، فقد وصل إنتاج الدنم من القمح في العام الفائت إلى نحو 900 كغ، بينما إنتاجه في العام الحالي لم يتجاوز300 كغ بعد أن توالت المصائب على محصول القمح من صقيع وأمراض فطرية فتكت به.. يقول «علي المحمد» وهو فلاح يملك عشر دونمات، إن الإنتاج الحالي يساوي فقط ثلث إنتاج العام السابق، فقد كان إنتاجه في العام الماضي بالأرض نفسها 8,6 طن بينما في هذا الموسم لم يتجاوز ثلاثة أطنان..
بعد ما رصدنا الواقع كما هو يتضح أن الأضرار التي لحقت بمحصول القمح ليست 8% بل 66%، وقد تصل إلى 80% وأكثر.. وفي بعضها الآخر وصل إلى مئة بالمائة لأن بعض الفلاحين قلبوا أراضيهم المزروعة بالقمح منذ أكثر من شهر، وعلى ذلك فإذا كان الإنتاج المتوقع لهذا العام هو 3,3 مليون طن كما جاء على لسان المدير العام لمؤسسة وتصنيع الحبوب أمام مؤتمر الحبوب في مدينة الرقة، فان الواقع يدل بشكل تقريبي أن الإنتاج سيكون 1,1 مليون طن فقط، ومع مثل هذا الرقم المحبط يظهر الحد الذي وصلت إليه وزارة الزراعة في تضليلها للقيادة والرأي العام عندما قدمت الإحصائيات الوهمية في محاولة منها لستر عيوب النهج الاقتصادي السائد والسياسة الزراعية، التي أفقدت البلاد أمنها الغذائي، وخلخلت بنية المجتمع إلى الحد الذي يهدد بكوارث غير مسبوقة بل مدمرة..
وإذا علمنا أن الحاجة السنوية للاستهلاك المحلي من القمح تصل إلى 4 ملايين طن، وفي ظل المؤشرات المحبطة لإنتاج هذا الموسم، سيكون العجز 2,9 مليون طن، منها حوالي مليون طن في مستودعات التجار من الأقماح المستوردة التي ستشق طريقها إلى صوامع الحبوب أو التي دخلت الصوامع, وهو ما تمت مناقشته مؤخرا في الاجتماعات التي دعت إليها الروابط الفلاحية، حيث خصص الجزء الأكبر منها لوضع الحلول التي تكفل عدم وصول تلك الأقماح إلى مكاتب تسويق الحبوب، ولكن سبق لوزير الزراعة أن أكد في 15/4 /2010 من مدينة السقيلبية أنه يصعب تمييز القمح المستورد عن القمح السوري، ما فهم في حينه على أن ذلك كرت عبور يشجع التجار المستوردين للقمح على المضي في تدليسهم وجني الأرباح الفاحشة على حساب الوطن ومواطنيه.
كثيرة هي الأسئلة وإشارات الاستفهام المتزاحمة لتحظى بالوصول إلى حيث تلقى العناية، ولكن أبرزها ضرورة التعويض على الفلاحين، لأن التعويض اكتسب صفة الضرورة الملحة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً في ظل السياسات الاقتصادية المتبعة التي أرهقت الوطن ومواطنيه .