أطفال ولكن
هناك ظاهرة مؤلمة باتت تنتشر بكثرة في مجتمعنا، وهي من أبرز المظاهر التي تدل على الفقر في أي مجتمع، إنها عمالة الأطفال.
المشهد المتكرر الذي يصدمنا كل يوم هو رؤية أطفال في عمر الورود، أجبرتهم ظروفهم السيئة على الانخراط في مجال العمل، فتجدهم يتجولون في الطرقات بين السيارات يبيعون بعض المواد الاستهلاكية، أو يعرضون على أصحاب السيارات الخاصة مسح البلور أملاً بالظفر بقروش قليلة تضمن لهم لقمة العيش، وتظهر في أعينهم نظرات حزن وألم ونقمة على هذا المجتمع.. فالطفل الجائع ينظر إلى كل شخص وكأنه السبب في شقائه، فيحمله في لاشعوره الذنب بما هو عليه، وكأنما يقول له: «انظر إلى حالي»!
المشكلة كبيرة جداً، وهي بكل تأكيد ليست وليدة اللحظة، وإنما أخذت بالانتشار منذ زمن بعيد بسبب سوء توزيع الدخل، ولكنها تتفاقم يوماً بعد يوم في ظل الظروف المتزايدة في تدهورها اجتماعياً واقتصادياً، والتي أكثر من يتأثر بها هو الطفل حيث تضغط على بنيته النفسية، وتترك لديه آثاراً سلبية، تنعكس على مجمل التكوين التربوي والأخلاقي والاجتماعي له.
فالأطفال الفقراء المضطرون للعمل والتشرد في الشوارع، يتعرضون إلى سوء معاملة مستمر، كما يصابون بتشوهات جسدية مختلفة نتيجة اعتداءات من كل الأنواع، وتنهكهم الأمراض الناتجة عن تعرضهم الدائم للحر والبرد، وتنشقهم لمواد كيميائية، فينعكس كل ذلك على سلوكهم الآني واللاحق، فيتعلمون الممارسات والألفاظ السوقية ويصبحون أكثر استعداداً للانحراف.
وتؤكد الدراسات أن الأطفال العاملين أقل وزناً وأضعف نمواً من أقرانهم في العمر نفسه، ويتأخر نموهم الذهني، ويقل احترام كل منهم لذاته، ولا يشعرون بقيمتهم حين يقارنون أنفسهم بباقي أطفال الأسر الميسورة، لذلك فإن عمل الأطفال هو بؤرة لإنتاج أشخاص منحرفين مستقبلاً، إضافة إلى ما ينتج عن ذلك من تشوهات نفسية نتيجة كرههم الضمني أو الصريح لظروفهم، ونقمتهم على المجتمع كونهم ولدوا في أسر فقيرة، فتزداد عدوانيتهم، ويميل مزاجهم للعدوانية لتفريغ تداعيات الإساءات والإهانات النفسية التي يتعرضون لها..
ورغم حرص قوانين الأمم المتحدة ومنظمات حماية الطفل على عدم تشغيل الأطفال، واعتبار ذلك استغلالاً لمرحلة الطفولة وانتهاكاً للبراءة، إلا أن حكومات الدولة الفقيرة والنامية ليس بوسعها إلا التفرج على خرق القوانين بعد تخليها عن دورها الرعائي أو عدم تبنيه أصلاً، وبالتالي تترك هذه الشريحة الواسعة من الأطفال لمصيرهم، متناسية ومتجاهلة صيانة حقوقهم ورعاية مصالحهم والمحافظة عليها من التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية المتغيرة باستمرار.
إن غياب كل رعاية للأسر الفقيرة في مجتمعنا، يرغم هذه الأسر باستمرار على إرسال أبنائها للعمل في الشوارع والمعامل والورش، وحتى الآن لا يوجد في سورية إحصاءات رسمية دقيقة عن عمالة الأطفال أو حتى معلومات شاملة حول حجم المشكلة، ويترافق ذلك مع غياب تنفيذ التشريعات القانونية لحماية الطفل وانتفاء وجود مشاركة فعلية رسمية للحد من انتشار هذه الظاهرة الخطيرة واللاإنسانية، وكل ما يعلن عنه هنا أو هناك، في هذه المناسبة أو تلك، لا يتعدى كونه حالة دعائية لا أكثر، أما فعلياً فالظاهرة إلى ازدياد، وهو ما سيؤدي في المدى المنظور إلى تخرج جيل واسع من الشباب المتمرد الناقم الذي سيلقي اللوم على المجتمع بأكمله والدولة لأنه يعدهما المسؤولين عن شقائه وحرمانه من التمتع بطفولته المسلوبة.
على الحكومة السورية المبادرة باتخاذ الإجراءات اللازمة لحل هذه المشكلة قبل إلقاء اللوم على الأسر الفقيرة التي أرسلت أبناءها إلى العمل، وحل مشكلة الدخل، وتوفير الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية للقابعين تحت خط الفقر، عندها يمكن مطالبة الأسر بعدم إرسال أطفالها إلى العمل، لأن ردها اليوم سيكون: للضرورة أحكام!!.