التنمية والقانون ضرورة التكامل وخطورة الفصل
يعد تحليل العلاقة بين القانون والمجتمع الذي ينظمه، من أصعب مباحث فلسفة القانون، ومن أخطر المسائل التي يؤدي تجاهلها إلى انعزالية التشريع عن المجتمع وإفراغ أي تطوير تشريعي من مضمونه. ففي الوقت الذي يجب أن يعمل فيه القانون على صيانة مصالح الجماعة الإنسانية التي ينظم حياتها، من خلال تجسيده للكيفية التي تتوافق فيه هذه الجماعة على تنظيم حياتها، ومن خلال احترامه لعاداتها وأعرافها واتجاهاتها العامة، فإنه يجب على القانون نفسه أن يعمل على تعقُّب تغير هذه المصالح وتطورها، ويجب أن يعمل على إنضاج الظروف للانتقال من مرحلة إلى أخرى أكثر تطوراً في حياة المجتمع.
وهكذا، فإنه يقع على عاتق المشرّع رصد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، قبل أن يحدد اتجاهاته في عملية التشريع، التي تعد ضرورة من ضرورات الإصلاح الشامل، إذ يفترض في القانون أن يلعب دوراً رائداً من خلال العلاقة الجدلية التي يكون فيها الإصلاح رافعةً لتطوير التشريعات، والتشريعات نفسها رافعةً لعملية الإصلاح.
وفي هذا الإطار فإن إقرار نصوص قانونية متطورة، لن يؤدي إلى تطوير الوضع الحقوقي للمجتمع، ما لم يترافق مع عملية تنمية فعلية تواكب التطور التدريجي للقانون، بحيث يشكل المجتمع نفسه الأرضية الصلبة، والمرجعية الفعلية لعملية الإصلاح التشريعي، وهذا يعني أن القانون سيبقى دون حامل اجتماعي ملائم له، ما لم يؤخذ عمقه الاجتماعي بعين الاعتبار، لأن أفراد الجماعة لن يتمكنوا عندها من فهمه، ومن ثم الالتزام به، وإنما سيعملون على تجاوزه والالتفاف عليه في أية فرصة سانحة.
وهكذا فلا يكفي إقرار قانون متطور نسبياً لحماية حقوق الملكية الفكرية، كما هو حال قانون حماية الملكية الفكرية السوري على سبيل المثال، دون تهيئة الأرضية الاجتماعية الاقتصادية اللازمة لتطبيق قانون كهذا. وأعني بالأرضية الاقتصادية هنا، تهيئة المواطنين السوريين اقتصادياً للالتزام بهذا القانون، من خلال تأمين مؤسسات ترعى الإنتاج الفكري والثقافي وتموّله. والمقصود بالأرضية الاجتماعية، بناء ثقافة مجتمعية تحترم الإنتاج الفكري، وتعد حمايته من أبرز الواجبات الملقاة على عاتق القانون ومؤسسات تشريعه وتطبيقه، وعلى عاتق المجتمع كله.
وكذلك فإنه لا يكفي الادعاء بأن العادات الاجتماعية لا تسمح بمنع زواج القُصَّر، أو إلغاء مصطلح «جرائم الشرف» من الأدبيات القانونية السورية، على أساس أن المجتمع يحمي هذه العادات المتخلفة، ويعدها جزءاً من منظومة القيم التي يحملها، لأن ادعاءً كهذا يبقى فارغاً من مضمونه ما لم تعمل الجهات المعنية على محاصرة هذه الظواهر من خلال رفع السوية الاقتصادية الاجتماعية للمجتمع، ومن خلال رفع سوية المرأة السورية وتأمين الحصانة الاقتصادية والمعرفية لها. ولا أدل على ذلك من انتشار هذا النوع من العادات المتخلفة في أحزمة الفقر، وفي الريف البعيد عن اهتمام الجهات الرسمية ومشاريعها التنموية.
دون التكامل بين التنمية الاجتماعية والإصلاح التشريعي، فإنه لا أمل بنجاح أي مشروع إصلاحي شامل. ودون تهيئة المجتمع لتقبل القوانين المتطورة، وصولاً إلى الارتقاء معها وبها، سيبقى القانون منعزلاً عن عمقه الاجتماعي، وستبقى المؤسسات القائمة على تطبيقه، عاجزة عن فرض سيادة القانون على المجتمع.