بيع الكلى والقرنيات والأولاد في ريف حلب الفقير.. تل الزرازير نموذجاً
ليست مفاجأة أن يلجأ الناس في ريف حلب الفقير، وخصوصاً في تل الزرازير، والمعصرانية، وحارة الشحادين، إلى بيع أعضائهم، فقد توسعت ظاهرة الفقر وتعمقت خلال سنوات الخطة الخمسية العاشرة، لدرجة أن بعض الدراسات الاقتصادية أكدت أن أكثر من 30% من المواطنين السوريين قد أصبحوا يعيشون تحت خط الفقر ويقبعون في ظله، أي أن هناك أكثر من ستة ملايين مواطن يفتقرون إلى الحد الأدنى لدخل الفرد حسب المقياس السوري لدرجة الفقر، والبالغ ثلاثين دولاراً فقط، أي ما يعادل 1495 ل.س شهرياً. ورغم الانخفاض الشديد في الحد الأدنى لمقياس درجة الفقر، يبدو الرقم في أعداد الفقراء في سورية كبيراً جداً، مع أنه لا يمكن أن نتخيل أن مبلغ الثلاثين دولاراً يمكن اعتباره عتبة مناسبة لمواجهة الفقر، حيث تحتاج الأسرة التي يبلغ متوسطها خمسة أفراد، إلى أكثر من خمسة أضعاف هذا المبلغ أجراً لمسكن متواضع في الشهر الواحد، وهذا يعني أن عدد الفقراء في سورية يمكن أن يكون أكبر من هذا الرقم بكثير.
ومن بين ستة الملايين فقير هناك أكثر من مليوني مواطن يعيشون تحت الحد الأدنى لدخل الفرد، ولا يستطيعون الحصول على الغذاء الذي يكفل لهم استمرار المعيشة ويسد احتياجاتهم الأساسية من السلع والخدمات. والأخطر أن هذا الرقم مرشح للزيادة في ظل السياسات الاقتصادية التي تسبب انهيارات يومية في الحياة المعيشية، خصوصاً مع غياب البرامج الجادة التي تهدف للتنمية الاقتصادية الشاملة، واستمرار تفشي نماذج اقتصاد الفساد والانتهازية، وسيطرتها على مفاصل الاقتصاد الحيوية، ما سيفتح الباب واسعاً لدخول شرائح جديدة من المواطنين السوريين إلى دائرة الفقر التي تتسع يوماً بعد يوم لتكوين شريحة واسعة من المهمشين..
بيع أعضاء الجسم
انطلاقاً من هذا الواقع المؤلم لجأ عدد من المواطنين لبيع ما لا يباع في سبيل الحفاظ على الرمق المتبقي من حيواتهم المريرة، فقد نَمَت إلى «قاسيون» بعض الأخبار حول أساليب جديدة لتأمين مصادر دخل عالية للمقترين يلجؤون إليها للبقاء على قيد الحياة، وهي بيع أعضائهم..
وللوقوف على حقيقة هذا الوضع المفجع الذي لا يمكن الوصول إليه إلا بعد العيش طويلاً تحت وطأة الفقر والعوز، بوصفه شكلاً من أشكال التحايل والالتفاف على الأزمات لتأمين لقمة العيش، جالت «قاسيون» في بعض الأحياء والقرى الفقيرة في محافظة حلب وريفها، وتساءلت مع الكثير من المواطنين عن اللجوء لهذا الأسلوب لتأمين لقمة العيش اليومية، فكانت لنا اللقاءات التالية:
ـ أبو عبد الله رب أسرة مكونة من سبعة أشخاص يعيشون في غرفة لا تتجاوز أبعادها 3.5 ×2.5م، وهي نموذج لسكن الكثير من الأسر في هذا الحي، وقد تزوج ابنه البكر بعد إنهاء خدمته العسكرية، ما اضطره إلى أن يبني له غرفة فوق الغرفة القديمة، ولا ندري بأية أعجوبة قد اخترع لها درجاً، لا يكاد يتسع لك حتى لو صعدت بشكل جانبي، فإن حوافه تضيق عليك من الجانبين. حدثنا أبو عبد الله عن حياته قائلاً: «هذه حياتنا كما ترى، ومعيشتنا هنا مثل كل أهالي المنطقة يوم نأكل ونجوع عشرة، وفي الشهر الماضي أمضينا أكثر من ثلاثين يوماً نتناول الخبز والشاي فقط، على ثلاث وجبات يومياً، فأنا أعمل دهَّاناً وقد تعرضت لإصابة، وليس هناك من ضمان أو أمان، وكل أهالي الحي يعملون في المهن الحرة، وإذا اشتغلوا يوماً أكلوا، وحين ينقطع الشغل يصومون لأيام طويلة، وابني البكر تسرَّح من الجيش، وزوَّجْتُهُ كي أفرح به، ولكنه لم يجد عملاً يأكل منه أو يعيلنا به، ومع ذلك فنحن أفضل حالاً من كثير من الأسر في الحي، والحمد لله...»
ثم استطرد أبو عبد الله بغصة حارقة: «هناك الكثير من أهالي الحي لجؤوا إلى طرق تعتصر لها القلوب ألماً وحسرة، للحصول على مردود يؤمن لهم لقمة العيش، فالكثير من جيراننا سافروا إلى مصر وباعوا كلية، وقبضوا ثمنها لكي يعيشوا، وفي البداية باع جارنا كلية بمليون ليرة سورية، ثم بعد فترة قال لنا جار آخر إنه باعها بـ800 ألف ل. س، أما اليوم فالذين يذهبون إلى مصر يبيعون الكلية بـ350 ألف فقط. وليس بيع الكلى فقط، بل إن هناك اثنتين من جاراتنا أيضاً سافرتا إلى مصر، وقد كانتا حامِلَيْن وعند الإنجاب باعتا الطفلين واحداً بـ800 ألف، والآخر بمليون و200 ألف ليرة سورية، والآن هناك الكثير من جيراننا قد قرروا السفر إلى مصر لبيع كلاويهم ليتمكنوا من تأمين لقمة العيش، الحياة والله قاسية، ولا يجبرك على المر إلا الأمر...».
ـ إحدى المواطنات شرحت لنا الظروف القاسية التي يعيشها أهالي المنطقة في مختلف نواحي الحياة، من قصور الخدمات في البنية التحتية بشكل عام، وفي متطلبات الحياة المعيشية اليومية بشكل خاص، فقالت: «إن أهالي المنطقة هنا يعيشون المعاناة نفسها، وتجمعهم قساوة الظروف الحياتية، ففي كل بيت تجد أن أكثر من عشرة أشخاص يعيشون في غرفة واحدة، وهي غالباً غير صالحة للسكن الإنساني، ومن بين هؤلاء الأشخاص العشرة تجد على الأقل اثنين أو ثلاثة منهم يعانون من أمراض وعاهات دائمة، نتيجة سوء التغذية. وإن مجرد النظر إلى سكن الأسر في هذه المنطقة، أو مجرد رؤية الناس الهزيلين كافية لتعبر لك عن مدى بؤسنا وشقائنا، عندنا الكثير من حملة الشهادة الثانوية ولكنهم لم يستطيعوا إتمام تعليمهم لسببين قاتلين، الأول هو الأحوال المادية الضيقة وانعدام توفر مصاريف الدراسة، وثانياً السياسة التعليمة التي ضربت رقماً قياسياً على كل دول العالم في معدلات القبول الجامعي، فانحرمنا من التعليم ولا نجد عملاً نقتات منه».
ـ أبو حسين قال بشكل مختصر ولكن بحسرة كبيرة: «الحمد لله مستورة، يوم نأكل وعشرة نجوع، ولكننا لم نضطر لبيع أعضائنا حتى الآن رغم أن أغلب الأيام نمضيها ثلاث وجبات من الخبز والشاي فقط، أما المؤونة فلا نعرفها ولا تدخل بيتنا، ومنذ زمن طويل لم نر الجبنة أو اللبنة أو الزيتون، ولا حتى الزيت والزعتر، واللحمة أصبحنا نراها في الأحلام فقط، وقد نأكلها مرة في السنة إذا تصدق بها أحد علينا، والناس هناك تبيع أولادها أو أعضاء من جسمها حتى تعيش، الله يتلطف بنا».
معاناة في مختلف جوانب الحياة
توجهت «قاسيون» إلى طبيب في الحي عرف عنه أنه طبيب الفقراء والمساكين، وسألناه عن الأحوال المعيشية العامة لأهالي الحي فأجاب: «إن الكثير من المواطنين يعانون من الفقر الشديد، ولا يرتادون عيادة الطبيب إلا في الحالات الشديدة جداً، ويكون الوضع الصحي على درجة كبيرة من الخطورة. وقد انتشرت في السنوات الأخيرة حالات التهاب المجاري البولية والحصيات في الكلية وتكلسات في الحالب والمثانة، والتهابات إنتانية في الجهاز الهضمي، وهذا نتيجة التلوث الشديد في مياه الشرب بعد أن كانت مياه حلب عذبة جداً».
وفي سؤال عن كيفية الحصول على الموارد لتأمين لقمة العيش اليومية، باعتبار أن هناك ظاهرة فقر شديد في المنطقة، أجاب: «العديد من الناس يقتصرون في غذائهم على الأغذية قليلة القيمة الغذائية والمادية، ويكون ارتيادهم لعيادة الطبيب بالدَّين، والحصول على الدواء من الصيدلية بالدَّين، وأنا أعرف أطباء وصيادلة قد فتحوا سجلات خاصة للدَّين، ويكون هذا الدَّين غالباً في عداد المنسيات، وهناك بعض الحالات التي تشير إلى فاجعة حقيقية، حيث عرض عليَّ بعض المرضى أنهم مستعدون لبيع كلية لقاء مبلغ ينقذهم ولو لفترة من براثن الفقر المدقع، علماً أن بعضهم كان إلى فترة قريبة من الميسورين مادياً، وقد طالتهم يد الفقر في جملة الشرائح الكبيرة التي انضمت لجموع الفقراء».
البحث في الأسباب
لا نستطيع تجاهل دور الحكومة في رفع معدلات الفقر، التي أدت بدورها إلى اضطرار شريحة لا يستهان بها من الشعب السوري إلى بيع أعضائهم أو أولادهم، من خلال عدم زيادة التنمية، الأمر الذي أعطى نتائج عكسية للأهداف المعلنة، فارتفعت أسعار المواد الاستهلاكية والتموينية بشكل جنوني، وازدادت تكاليف الحياة المعيشية اليومية بشكل مرهق للمواطن السوري، وتعقدت عملية الحصول على لقمة العيش، بينما المستوى المعيشي الموعود بالتحسين تراجع إلى الوراء بشكل كبير، بسبب تراجع معدل النمو السنوي في الناتج الإجمالي المحلي، وعدم عدالة توزيع الدخل، ما يدل على أن التحولات الاقتصادية خلال سنوات الخطة الخمسية العاشرة لم تكن في مصلحة الفقراء. وتشير بيانات حصص الشرائح السكانية من الإنفاق العام للأسر، إلى وجود تباينات كبيرة، وعدم العدالة في توزيع الإنفاق بين أفراد المجتمع. حيث بلغت حصة أفقر 10% من السكان 3% فقط من مجموع الإنفاق، بينما بلغت حصة أغنى 10% من السكان نسبة 30% من مجموع الإنفاق.
جرت الدراسات على 100 قرية في سورية تعيش تحت خط الفقر وفي ظروف مأساوية مزرية، منها 52 قرية في ريف حلب، منها جفر منصور، الفارات، طاط، مغيرات شبلي، مبتين، جنيد، خان طومان، صقلايا، سيفات، كفر صغير، بشنطرة وغيرها، و11 قرية في محافظة الحسكة منها مركدة، عجاجة الشرقية، سبع سكور غربي، غزالة، سليمة، أم الفرسان، حامو، مخروم، وأبو شاخات، و13 قرية في كل من محافظتي إدلب والرقة، و5 قرى في اللاذقية، و5 قرى في ديرالزور هي الدحلة، المسرب، المعيشية، الجيعة وزغير شامية، وقرية واحدة في حمص. فمحافظة حلب هي الأفقر، وخاصة حزام الفقر المحيط بالمدينة مثل كل أحزمة الفقر في المدن الكبرى، بالإضافة إلى القرى في الريف الفقير، حيث وصل الفقر إلى أكثر من ضعفي المتوسط الريفي العام، وإلى ثلاثة أضعاف مستويات الفقر في المناطق الحضرية.
هل القادم أعظم؟!!
هكذا هو الأمر إذاً!! سوق تجارة الأعضاء تخضع أيضاً لقانون العرض والطلب، وبما أن العرض قد ازداد مع اتساع ظاهرة الفقر وعمقها، فإن الثمن قد انخفض، فهل سيأتي يوم نبيع فيها عضواً من جسمنا لقاء قوت يوم واحد فقط؟!!
لقد غابت الشفافية عن طريق التعاطي الحكومي مع مشكلة الفقر، وأدى ذلك إلى هذه الانعكاسات السلبية والكبيرة، واللعب بالأرقام وإدعاء نمو وهمي وغير حقيقي خلق واقعاً مأساوياً، وإن أية خطة لا تأخذ بعين الاعتبار وبشكل جدي التحديات الماثلة، ستكون خطة فاشلة، والاستثمارات الريعية التي لا تقدم قيمة مضافة هي استثمارات لمصلحة أصحابها فقط، ولا يمكن أن تنعكس نمواً على عموم المواطنين.
الحقيقة الناصعة هي أن المواطن السوري على موعد مع تحديات شرسة، تسحب منه أبسط مقومات الحياة، وتضعه وجهاً لوجه أمام تحديات مجهولة المعالم ومستقبل مظلم قاسٍ، في ظل قصور برامج التنمية الاقتصادية، والمواطن له حقوق أساسية يجب أن يحصل عليها، وهي الحد الأدنى من الاستقرار الذي يضمن استمرار معيشته ومساهمته في برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية...