من الذاكرة: من الأبوة إلى الزمالة
«قال مرحباً يا شب يا أبو الفهد، قلت مرحبتين وأهلين وسهلين قال كيفك جدو.. أنا مشتاق كتير لشوفك.»
هذا بعض من مكالمة هاتفية أجراها معي أحد أحفادي من ألمانيا مساء الجمعة الماضي. هذه المكالمة التي حملتني بعد أن أنعشت في قلبي وعقلي حقيقة الشعور «ما أغلى من الولد، إلا ولد الولد» على أجنحة الخيال لأستعرض ما عشته من تطور العلاقة بين الآباء والأبناء تبعاً لتطور المجتمع بعيداً عن خطل وتهافت نظرية صراع الأجيال لقد انتقلنا من شكل علاقات قائم على أن الأب هو الآمر الناهي وعلى الأسرة تنفيذ (توجيهاته) دون نقاش أو تردد، وذلك فعلاً ما عرفته خلال طفولتي فعندما يعود الأب من عمله مساء تنتهي كل مظاهر اللعب والصخب، ويسود هدوء تام، فلا نتحدث إلا حين نرد على أسئلته إن سأل. فلا نجرأ على مخاطبته إلا إذا خاطبنا فهو يتسم بالصرامة والجدية. لكن ذلك لا يعني انتفاء العلاقة الحميمة التي تظهر أحياناً ولو قليلة، وأذكر واحدة منها حدثت أواخر الأربعينيات القرن العشرين يوم اصطحبني معه وأنا في العاشرة من عمري إلى مقهى الرشيد الصيفي لأحضر وللمرة الأولى مسرحية، انطبعت مشاهد منها في خاطري وفي قلبي، فقد أبصرت على خشبة المسرح شخصية بدوي مهيب يقف أمام موقد النار بعد أن أدى دوره مع فرقته المسرحية، والحضور يصفقون له بحرارة فيخاطبهم بصوت قوي: حياكم الله أيها الأحباب، إنه الفنان المصري القدير أمين عطا الله، ويمر الزمن فأصبح عضواً في الحزب ثم أصير أباً ثم جداً لستة عشر حفيداً وحفيدة. وسأحدثكم اليوم عن المعسكرات «المخيمات» التي كان اتحاد الشباب الديمقراطي يقيمها في بساتين دمشق والغوطة وعين الصاحب وأشرفية الوادي وسوق وادي بردى والتكية، وأحياناً في الساحل السوري.. تتضمن ندوات ومحاضرات ومسابقات ثقافية وفقرات فنية ورياضية والقيام بمسير نهاري أو ليلي، ففي صيف عام 1974 كنت مشرفاً على أحد معسكرات الشباب، وكنت يومها عضواً في مكتب دمشق لاتحاد الشباب الديمقراطي.. والمكان وادي بردى، والزمان حوالي العاشرة ليلاً حين جاءني المكلف بمتابعة تطبيق برنامج المعسكر ليخبرني أن ثلاثة زملاء لم يتقيدوا بساعة النوم المحددة وبقوا ساهرين، فاستدعيتهم لأقف على حقيقة الأمر، وبادرني أحدهم وهو ابني فهد ليقول:
«زميل.. السبب في عدم نومنا» فلم أدعه يكمل الكلام وقلت له «زمّلك أبو ملعون!» لكن سرعان ما تداركت هذا الانفعال العارض لأتابع السماع وأعرف السبب، فالبرغش ملأ خيمتهم وحال بينهم وبين الركون للنوم وبخاصة أن خيمتهم أقرب الخيام إلى ضفة النهر وبالمناسبة فأنا أشعر بفيض من السعادة والاعتزاز أنني كنت أول اتحادي في سورية يجمعه معسكر للشباب مع ابنه الاتحادي لأقول له: زميل فهد.. ويقول لي: يا زميل أبو فهد!