عبد الرزّاق دياب عبد الرزّاق دياب

الأفعال.. ليست للريح

أسقطتنا الوعود بالضربة القاضية، وها نحن على مفترق الطرق نصيح بالذاهبين من الحلم: ارجعوا ما زال لدينا متسع من الوقت لنغفو على أريكة الأمل، ونقسو على الجرح المفتوح بكحول الشفاء لكنهم يفاجئون أنفاسنا بكلمات قادتنا إلى هذه اللحظات التائهة.

بالأمس حلمنا بالياسمين يطوق البيوت، وبالمشاوير الهانئة على طريقة الزمن السعيد ، وأطفال يركبون أرجوحة الفرح غير مكترثين بمجلس الأمن وصيحات اليأس ، وشعراء يقترفون القصائد الماجنة عن نساء لسنا في (عبقر) ، وشباب مستقبليون لا ماضويون يجترحون مديح سيف بن ذي يزن وحمزة البهلوان، ويركبون الجدار الذي قاد الزير سالم إلى قيامة تسمى (البسوس).

بالأمس سمعنا خطبة الزمن الجميل.. السوري سينافس جيرانه في الدخل، السياحة قاطرة المستقبل القادم، الميترو سيخلصنا من الركوب على بعضنا، وسيخلصنا أصحاب الشركات الملونة من عقدتنا الجنسية التي ورثناها من ركوب النقل الداخلي لعقود، سندخل دمشق من أجمل بواباتها وصولاً إلى الدهشة في بوابتها الثامنة، نتسوق على هوانا في (السناتر، المولات)، نشتري لأولادنا ما يشاؤون دون عقدة آخر الشهر، نصيّف في الجبل والبحر والشوارع دون (مطمورة) أو جمعية نتقاتل عليها من سنة مع أصدقائنا بحجة عملية جراحية لقريب، أو ولادة مفاجئة، أو عطل في الغسالة والبراد.

بالأمس.. عشنا وهم الخطط الخمسية، وعدنا بالنعيم الذي ستحققه لنا الخصخصة، وبالشركات الكبرى التي ستبني لنا مدناً ريفية هادئة، بالعقارات التي من الممكن أن يكون للفقير فيها حصة السقف، بالقروض التي ندفعها على مهل بلا فوائد، وسموها بالعادلة والمنصفة والخارقة.

ظننا مصدقين أننا تجاوزنا زمن الطوابير، فالكلمات التي حفظتها المنابر عن ظهر قلب (لحست) قلوبنا قبل العقول، اعتقدنا أننا نمشي إلى زمننا دون عقود إذلال، ودون صاحب عمل متكبر، وأن بإمكاننا أن ندخل إلى مبنى البلدية دون إذن المستخدم، ودون رشوة لموظفي الديوان والمكتب الفني بينما رئيس المجلس البلدي يدعي العفة قبل اقتسام المعلوم.

اليوم.. ما زالت الوعود تتكرر، وما زال سدنة الفساد في مؤسساتنا، بل أن البعض يعلن بفجور انتهازيته، فالارتباك المؤسساتي أرض خصبة لزيادة الحصص، والقرارات التي كانت تنام تحت (كارتابل) المدير صالحة للاستثمار، والوساطات ينتعش زمنها، وكما تم استثمار عصر العقود الموسمية والسنوية، يستثمر اليوم التثبيت على قاعدة الفرص والملاكات والشواغر، ومكافحة الفساد تعني أن يدفع الفاسد أكثر ليخرج من القائمة.

اليوم.. محاسب خرج من وظيفته بتهمتين من الهيئة المركزية الرقابة والتفتيش يعود إلى وظيفته بعد سبع سنوات من الطرد إلى وظيفة أخرى، وبتقريرين تفتيشيين لم ينفعا في محاسبته بل إكرامه رغم أنف من يحب ويكره، والآن يجلس على كرسيه القديم وبعينيه نظرة استعادة الماضي ممزوجاً بشرف مستعاد.

اليوم.. الفاسدون يرفعون شعارات التأييد للوطن كما لو أنهم لم يُعملوا فيه أبنيتهم المترنحة، ولم يعبّدوا شارعاً على عجل، ولم يرصفوه ببلاط هش، ولم يدخلوا مناقصة متفق عليها، ولم يدفعوا رشوة لأحد.. كأنهم ولدوا للحظة التاريخية التي يحتاجهم الوطن فيها خطباء من عصر (ميرابو)، ولكنهم في لحظة اختلاط الوقائع نسوا أننا لم ننسَ الوجوه والتاريخ وأيديهم التي امتدت إلى جيوبنا.. وأعمار أبنائنا وهذه الأرض التي تسمى وطننا.

اليوم يطلق وزير جديد تصريحاً بأنه لن يتهاون مع المرتشين، ولن يسمح بها.. بالأمس كانت التهديدات الحكومية بالضرب بيد من حديد على أيدي الفاسدين.. اليوم نحتاج إلى أكثر من الوعود والتصريحات.. الأفعال صالحة دائماً، أما الأقوال فالريح أولى بها.