يوسف البني يوسف البني

من الذي يتستر على موجة البناء المخالف؟ الانتهازيون وتجار الأزمات يحققون أرباحاً على حساب أمن الوطن وكرامة المواطن

لم يكتفِ الفاسدون في بلادنا بالتسبب بأزمات للفقراء، بل إنهم مصرون على ما يبدو على إعادة تدويرها، نحو مزيد من التربح غير المشروع. وفي الأزمة التي تمرّ بها البلاد حالياً، تبرز إحدى مظاهر هذا السلوك الانتهازي، والمتمثلة بتهافت مستغلي الأزمات من تجار البناء على انتهاز الفرصة لإشادة أبنية كثيرة، بل وأحياء كاملة من المخالفات، في مختلف المحافظات السورية، وذلك في وقت ينشغل فيه المجتمع السوري بالهمّ الوطني والمطلبي، وفي ظل غيابٍ تام لدَور البلديات والوحدات الإدارية والمحافظين ووزارة الإدارة المحلية، وانشغال هذه الهيئات أو تراخيها.

وهؤلاء لا همّ لهم سوى استغلال الظروف لتمرير مصالحهم، وتحقيق أطماعهم وجشعهم وربحهم الفاحش، مختبئين خلف المقصرين والمهملين من مجالس البلديات والمحافظات، أو من يتغاضى عنهم عن قصد، ففي ظل الفساد المستشري في مفاصل جميع المؤسسات والهيئات، والذي يحميه المنصب وتُقوّيه السلطة المطلقة والمسؤولية المتولاة، يطل الفاسدون برؤوسهم ليمرروا كل ما يسيء للوطن، مقابل مبالغ ليست من حقهم، وأموالٍ غير نظيفة، في وقتٍ نحن فيه أحوج ما نكون إلى الالتزام بالأنظمة والقوانين وعدم تجاوزها أو مخالفتها.

أبنية طابقية بأكملها وبنايات جديدة بدأت بالظهور بسرعة خيالية، في مختلف المحافظات والمناطق في سورية عموماً، وقد شُيدت هذه الأبنية بطريقة مخالفة وعشوائية في الأحياء الشعبية والتوسعات التنظيمية، وعلى أطراف المخططات التنظيمية، وحتى ضمن المخططات التنظيمية ومتجاوزة عليها. وتدور عملية البناء المخالف في وضح النهار ومنتصف الليل وعلى مدار الساعة، في غياب القطاعات المسؤولة عن مراقبة الأبنية المخالفة والقيام بهدمها، أو إيقافها وعدم السماح ببنائها. إضافة إلى أن القائمين على البناء المخالف يقومون بالاعتداء على شبكات الكهرباء والماء، واستخدام ما يلزمهم بعيداً عن الرقابة والمحاسبة.

من المستفيد من الأزمات؟

إن الغالبية العظمى من المخالفات المرتكبة ليست ذات بعد إنساني لإيواء الفقراء والمحتاجين للسكن، وإنما هي مشاريع كبيرة لتجار البناء وشركائهم في البلديات والمحافظات. وقد أدت الهجمة الكبيرة على البناء المخالف في المدن والأرياف إلى ارتفاع كبير في أسعار مواد البناء، إضافة إلى حدوث أزمة كبيرة، تتمثل في صعوبة في الحصول على هذه المواد لأصحاب الرخص النظامية. إن الاستجرار الكبير لمواد البناء بشكل عام جعل المبيعات تقفز إلى مستويات خيالية، ونتيجة الطلب المتزايد عليها تم فقدان الكثير منها في السوق الداخلية السورية، وارتفعت أسعارها بشكل خيالي أيضاً، فارتفع سعر طن الحديد من 30 ألف ليرة سورية، إلى نحو 42 ـ 45 ألف ليرة سورية. ويباع طن الاسمنت في السوق السوداء بـ9000 ليرة سورية، علماً أنّ سعره الرسمي لا يتجاوز 6500 ل.س، أما البلوك فقد ارتفع سعر البلوكة سماكة 10 سم من 10 ليرات سورية إلى 24 ل.س، وارتفع سعر البلوكة سماكة 5 سم من 14 ل.س إلى 35 ل.س، بسبب ارتفاع سعر سيارة الرمل الأبيض سعة 5م3 من 4000 ل.س إلى 6000 ل.س، وسعر سيارة البحص للسعة نفسها من 4000 ل.س إلى 7000 ل.س.

من هنا نرى أنّ الأرباح الكبرى قد تركزت بين تجار مواد البناء وأصحاب الكسارات، وقد ينال أصحاب معامل البلوك أيضاً جزءاً من تلك الأرباح، لكن الأرباح الكبرى التي تم الحصول عليها دون تجارة، ودون تقديم كاسبيها لأيّ رأسمال، فقد دخلت جيوب الفاسدين والعاملين المقصرين بأداء واجبهم في البلديات والجهات الإدارية، والذين غضوا النظر وسمحوا بتمرير هذه المخالفات بعد قبضهم مبالغ الرشوة. ولا ننسى أنه تمت في محافظة مدينة دمشق وحدها إشادة أكثر من 300 ألف ملحق فوق الأبنية الطابقية، وفي الوجائب والفسحات التي أقرتها المخططات الهندسية ورخص البناء، فمَن سمح بإشادة هذه الملاحق؟ وما هو ثمن التغاضي عنها أو السماح بإشادتها؟! وفي جيوب مَن استقرت الأرباح غير المشروعة؟

من الذي يدفع الثمن؟

ارتفعت أجرة اليد العاملة في قطاع البناء نتيجة الطلب المتزايد عليها، وقد وجد الكثير من المتعيشين فرصة لن تتجدد في الحصول على أجور وأرباح استثنائية، ولكن على حساب صحتهم وحياتهم، فالكثير من ورشات البناء كان يتم إنجاز الأعمال الأساسية فيها من أعمدة وأسقف خلال الليل، وحتى ما بعد الفجر، وهذا ما سبب حوادث سقوط أدت في جرمانا وحدها إلى وفاة أربعة عمال في ورشات مختلفة، ومن المؤكد أن هذه الوفيات قد مرت دون تحقيق، ودون البحث عن السبب والمسبب، ومن الممكن أن تكون قد ضاعت حقوق كثيرة لأُسرٍ ثكلى أو أيتام حرموا عطف ورعاية آبائهم في سنين مبكرة.

يضاف إلى ذلك أنّ الكثير من هذه الأبنية المخالفة تفتقد لأي نوع من الأمان وضمان السلامة العامة، نظراً لعدم مراعاة شروط البناء من حيث حسابات الكميات والحمولات، والسرعة في التنفيذ، وافتقاد الجودة والصلاحية الإنشائية، بسبب عدم وجود مخططات ودراسات هندسية، وعدم وجود إشراف على التنفيذ، وهذه من أهم المخاطر والأضرار التي تهدد حياة من سيسكنون هذه الأبنية المخالفة، والعشوائيات الجديدة، إضافة إلى أن أوضاعها القانونية غير سليمة، ولا يمكن تسوية أوضاعها مادياً وقانونياً، وستسبب إشكالات كثيرة للمحتاجين إلى سكن عند حركة البيع والإيجار.

الشركاء بالمخالفة قانوناً

إن إشادة الأبنية المخالفة وغير المرخصة يعتبر خرقاً تصريحاً لأحكام القانون المتعلق بمخالفات البناء، والذي يحدد المشتركين والمسؤولين عن المخالفة، ويحدد نوع العقوبات المترتبة عليهم. فقد أصدر رئيس الجمهورية في عام 2008 المرسوم التشريعي رقم 59 القاضي بإزالة الأبنية المخالفة ومخالفات البناء كافة، ومهما كان نوعها، بوساطة هدمها، مع مراعاة المخالفات القابلة للتسوية، ثم أقر مجلس الوزراء مشروع القانون المتضمن تعديل بعض مواد القانون رقم 1 لعام 2003 الخاص بمخالفات البناء، بحيث تُشدَّد العقوبات على مخالفات البناء، حتى المرخص منها، بهدف التشدد في قمع المخالفات ووضع حد لارتكابها وإزالة أية مخالفة مهما كان نوعها، مع فرض عقوبة الغرامة على مرتكبها والمشارِكين فيها (المالك والمتعهد والمهندس الدارس أو المشرف)، كما حدد المرسوم 59 نوع العقوبات المترتبة على من تثبت مسؤوليته وصلته بالبناء المخالف.

كما وفرض المرسوم عقوبات على المالك أو واضع اليد بصفة قانونية أو غير قانونية، وعلى كل من يتصرف بالمقاسم المخالفة كلياً أو جزئياً، ويعاقب المرسوم 59 العاملين في الجهة الإدارية، من الذين قصروا في أداء واجبهم من جهة الرقابة أو قمع المخالفة.

ومن المفترض أن تكون محافظة دمشق قد بدأت بمشروع مراقبة المدينة ومحيطها عن طريق الأقمار الصناعية، في سبيل الحد من انتشار المخالفات وأماكن السكن العشوائي، وكشف التغييرات البيئية الناتجة عنها. وفيما يلي بعض مواد المرسوم 59 لعام 2008:

ـ المادة 2: مع مراعاة أحكام المواد 6 ـ 7 ـ 11 تزال الأبنية المخالفة ومخالفات البناء كافة ومهما كان نوعها بالهدم وترحل الأنقاض على نفقة من كانت المخالفة لمصلحته.

ـ المادة 3: أولاً: يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنة وبالغرامة من 200 ألف ل.س إلى مليون ل.س، كل من تثبت مسؤوليته سواء كان مالكاً أو حائزاً أو شاغلاً أو متعهداً أو مشرفاً أو دراساً للبناء، عندما يكون البناء المخالف متجاوزاً على التخطيط المصدق، أو واقعاً ضمن الأملاك العامة، أو أملاك الدولة الخاصة ضمن الحدود الإدارية أو متجاوزاً عليها، أو واقعاً ضمن المناطق الصادر بها صك استملاك، أو ضمن مناطق التنظيم الممنوع البناء عليها.

ثانياً: يعاقب بالحبس من سنة إلى ثلاثة سنوات وبالغرامة من 500 ألف ل.س إلى مليوني ل.س كل من تثبت مسؤوليته سواء كان مالكاً أو حائزاً أو شاغلاً أو متعهداً أو مشرفاً أو دراساً عندما يكون البناء المخالف غير حائز على المتانة الكافية بحالة قد يتعرض معها البناء للانهيار بالاستناد إلى تقرير لجنة السلامة العامة في المحافظة. أو حين يكون البناء المخالف متعارضاً من نظام ضابطة البناء بإضافة طابق أو أكثر أو جزء من طابق غير مسموح، أو أي تعديل في الجملة الإنشائية، ويعاد الوضع إلى ما كان عليه حسب الترخيص المسموح.

ثالثاً: ويعاقب بالغرامة المالية من مائة ألف إلى مائتي ألف ل.س كلٌّ من مالك العقار أو حائزه أو شاغله الذي يقوم بإنشاءات أو إجراء تعديلات مخالفة للرخصة الممنوحة ودون الحصول على رخصة نظامية، والمتعهد أو المهندس أو الدارس أو المشرف عند القيام بإنشاءات مخالفة للترخيص الممنوح ودون الحصول على رخصة بناء نظامية.

رابعاً: يعاقب بذات العقوبة والغرامة المنصوص عليها في البندين أولاً وثانياً من هذا المرسوم التشريعي العاملون في الجهة الإدارية المقصرون في أداء واجبهم في الرقابة أو قمع المخالفة.

من هنا نرى خطورة تورط الموظفين والمراقبين والمهندسين، الذين أمعنوا في مخالفة القانون ضاربين بعرض الحائط تعاميم وقرارات الحكومة.

ka

على لسان من يعانيها

جالت «قاسيون» على كثير من ورشات البناء التي يتم العمل فيها على قدم وساق ليل نهار، وعلى مدار الساعة، منها المخالف ومنها المرخَّص، ورفض المتعهدون والعمال في الأبنية الكبيرة غير المرخصة التحدث إلينا، بينما كان لنا اللقاء التالي مع أحد المواطنين الذي يبني بيتاً متواضعاً من غرفتين وخدمات فقط، فقال: «إن الذي اضطرني إلى تهريب المخالفة هو أنني لا أستطيع تحمُّل ارتفاع أتعاب نقابة المهندسين، والتي تتقاضاها دون وجه حق من المواطنين الراغبين في ترخيص مخططات أبنيتهم الهندسية. فهل من المعقول أن تأخذ نقابة المهندسين مبلغ 132 ألف ليرة سورية كأجرة مهندس مقيم بالمشروع تختاره النقابة، وقد لا أعرفه ولا أراه في المشروع طوال فترة التنفيذ؟! فإذا كانت الجهات المعنية تنوي القضاء على مخالفات البناء يجب إعادة النظر بهذه الأتعاب، ويجب إعادة النظر بالرسوم والإجراءات، وتخفيضها وتخفيفها عن كاهل المواطن الذي يريد الحصول على رخصة للبناء. يجب أن تخفض تكاليف الرخصة التي تكسر الظهر، وقبل كل شيء يجب محاسبة الفاسدين وإبعاد المرتشين من موظفي البلديات، الذين يجعلون من الورشة بقرة حلابة، حتى لو كانت ورشة نظامية ومرخصة، هل من المعقول أن تأخذ النقابة مبلغاً، كان يمكنني بواسطته أن أبني طابقاً مؤلفاً من أربع شقق سكنية؟».

وفي ورشة مرخصة أخرى ومتوقفة منذ أكثر من شهر، أطل علينا صاحبها بحزن كبير قائلاً: «ألا يكفي سوق العقارات في سورية ما تعانيه من مشاكل وأزمات وفساد وارتفاع أسعار، حتى تغرق بآلاف العقارات غير النظامية التي تعتبر بحد ذاتها مشكلة يحاول كل العالم التخلص منها؟! ولماذا لا تتدخل الدولة لضبط أسعار البناء الخيالية التي يفرضها علينا تجار البناء، ليصبح امتلاك شقةٍ حلماً بعيد المنال؟ ولماذا لا يتم النظر في مشكلة الشباب والمواطنين بشكل عام، ممن يحتاجون إلى سكن آدمي؟! أم أن هذا الأمر لا يكترث له من يسكنون قصوراً وبروجاً مشيدة؟»

باختصار شديد

نتيجةً لثقافة الفساد التي ولدت ونمت وترسخت خلال العقود الأخيرة، أصبحنا نرى الكثير من الانتهازيين وراكبي الأمواج والمنتفعين من الأزمات، الذين يتاجرون بالحاجات الملحة للمواطن السوري، أو الساعين لتحقيق أسرع وأكبر الأرباح إرضاء لطمعهم وجشعهم تحت الظروف الاستثنائية، وكثيرون هم الفاسدون الذين يساعدونهم ويغطون عليهم ويشاركونهم أرباحهم في أغلب الأحيان، فقد استغل تجار البناء ومواد البناء انشغال الناس بالهم الوطني، وعملوا مثل خفافيش الليل لتحقيق مصالحهم، وهناك من غطى على تجاوزاتهم ومخالفاتهم، وقبض ثمن سكوته وغض الطرف، فهل من متابعة وفتح ملفات للتفتيش والتحقيق بهذه الظاهرة ومحاسبة الجشعين والفاسدين؟!

 

آخر تعديل على الأربعاء, 11 أيار 2016 14:36