صحياً وبيئياً .. المخلفات تفتك ببانياس
يعاني أهالي المنطقة الساحلية، وخاصة بانياس وطرطوس والقرى والبلدات القريبة منها، منذ عقود من الأضرار الصحية المباشرة الناتجة عن مخلفات بعض المنشآت الصناعية في المنطقة، وخاصة معمل الاسمنت والمحطة الحرارية ومصفاة النفط، وقد تزايدت أعداد المتضررين مؤخراً بسبب الكثافة السكانية التي ارتفعت معدلاتها مع ازدياد أعداد النازحين إلى تلك المنطقة.
الأضرار الناتجة عن مخلفات تلك المنشآت ليست مقتصرة على الجانب الصحي بالنسبة للإنسان فقط، بل تتعداها إلى أضرار بيئية في غاية الخطورة أيضاً، بالإضافة طبعاً وبنتيجة الأمر إلى ما يرافق ذاك وتلك من استنزاف اقتصادي طويل الأمد، على مستوى الإنتاج الزراعي والحيواني في المنطقة.
مخلفات الاسمنت
حسب بعض الدراسات تشكل النعومة العالية لمخلفات الاسمنت التي تصل ما بين 20 و100 ميكرون، والكلوريدات والكبريتات والقلويات والجير الحي مصدر الخطورة في هذه الأتربة الشديدة النعومة من الناحية الصحية والبيئية، وهي تسبب تدهوراً بيئياً خطيراً نتيجة لما يسببه من تلوث في الهواء داخل مصانع الاسمنت وخارج البيئة المحيطة بالمصنع، وبسبب دقة حبيبات هذه الأغبرة فإن أقل قدر من الهواء يمكن أن تحملها بسهولة، وتنشرها على مساحات واسعة من المناطق المحيطة بمصانع الاسمنت، كما أن تراب الاسمنت يمكن أن يلوث مياه الشرب عن طريق انتشار وتسرب الغبار إلى البحار والأنهار والمجاري المائية.
وتفيد بعض الدراسات بأن الملوثات الثابتة، وخاصة الغبرة التي تطلقها مصانع الاسمنت تلحق أضراراً بيئية واسعة بالأرض والزرع وقيعان البحار والأنهار، حيث تشكل في حالة البحار المجاورة طبقة رغوية شبه هلامية تقضي بالكامل على المحيط البيئي في تلك المناطق البحرية.
كما أن الهواء في تلك المناطق يحمل جزئيات سامة تنبعث على هيئة أغبرة تتصاعد من مداخن تلك المصانع فالهواء في تلك المناطق يحمل جسيمات الاسمنت ويرسبها على أوراق الشجر، فيسد الثغور ويعوق عملية التبادل الغازي، فتتكون طبقة ناعمة مما يؤدي إلى تساقط الأوراق وجفاف النباتات.
أضرار صحية
وحسب أخصائيين تنتج عن صناعة الاسمنت أمراض خطيرة لما يحويه من مركبات مثل الكربون والهيدروجين والجزئيات العالقة والفسفور والأتربة والدخان والأبخرة وغيرها وهذه العناصر تشكل سبباً مباشراً لانتشار العديد من الأمراض، وأهمها التأثير على الجهاز العصبي والجهاز التنفسي، وصعوبة التنفس والتأثير على الأغشية المخاطية والتهاب القصبات وتهيج البلعوم، والتأثير المباشر على الجملة العصبية، وتهيج ملتحمة العين وانعدام الرؤية، وأمراض الرئة كالربو والسل، وآلام في الصدر والتهاب القصبات الهوائية، وفقدان حاسة التذوق والشم، والتصلب الرئوي وأمراض الجلد وتورمات خبيثة في أنسجة الرئتين، وأمراض الحساسية والإصابة بالسرطان، وتشوه الأجنة والإصابة بمرض التليف الرئوي (السليكوز)، الناجم عن استنشاق الغبار المنبعث من مداخن مصانع الاسمنت، والإصابة بمرض الصفراء (اسبيستوز) الناجم عن غبار الاسبتوس وأمراض الصداع الدائمة.
إضافة إلى إصابة الإنسان بأمراض مختلفة أخرى تتفاوت حدتها بحسب مناعة الجسم، وكذلك على صحة الأطفال، ففي دراسة حديثة عن أمراض الأطفال تشير إلى أن الصناعات الملوثة أدت إلى تدهور صحة الأطفال، فنسبة تعرضهم للإصابة تعادل ثلاثة أضعاف الكبار.
مصفاة بانياس
يصدر عن المصفاة العديد من الغازات والأبخرة السامة والضارة صحياً وبيئياً، وذلك لاعتمادها في التشغيل على المشتقات النفطية والفيول، بالإضافة إلى عدم وجود فلاتر خاصة كما هو متوفر في غيرها من المصافي في غير مكان، على الرغم من الكثير من الوعود عبر العقود الماضية بهذا الشأن، كما الوعود بتحويل آلية التشغيل لتصبح على الغاز، الأقل ضرراً على المستوى الصحي والأدنى تأثيراً على المستوى البيئي، ولكن حتى الآن لم تفلح هذه الوعود لترى الشمس.
تعد هذه المصفاة ذات تأثير كبير على مستوى الضرر البيئي والصحي في مدينة بانياس والقرى المحيطة بها، حيث تضم الآلاف من العمال الذين يعملون في ظروف صحية صعبة وسيئة إلى أبعد الحدود، حيث يعاني غالبيتهم من آلام حادة في الصدر مع إرتفاع في نسبة الإصابة بالسرطان بين العمال، كسرطان الرئة وسرطان الدم اللوكيميا وسرطان الجلد، وذلك بسبب تعرض هؤلاء للغازات الضارة والمؤذية.
كما هناك التأثير والنتيجة نفسها على مستوى القاطنين في الأحياء والقرى القريبة من المصفاة، لمسافة تصل إلى 12 كم، وذلك حسب دراسات سابقة.
المحطة الحرارية
تعتبر المحطة الحرارية في بانياس من أهم المحطات الحرارية في سورية، وهي تبعد عن مدينة بانياس بحدود 2 كم فقط، وفيها أعداد كبيرة من العاملين، وهذه المحطة يتم إنتاج الكهرباء عن طريق النفط والفيول، وهي ذات تأثير كبير على المستوى الصحي والبيئي، على بانياس والقرى المحيطة بها، كما أن الغازات والأبخرة الناتجة عن عملية الاحتراق تؤدي للعديد من الأمراض، منها أمراض الرئة والسرطانات بتعددها وتنوعها، كما أن لها تأثير بيئي جسيم حيث يتم تبريد أجهزتها عن طريق مياه البحر، وما يمكن أن يحمل ذلك من أضرار حتى على مستوى الثروة السمكية.
معاناة الأهالي غير المدركة
سكان المنطقة والقرى القريبة يتساءلون عن سبب استمرار معاناتهم الممتدة منذ عقود، والتي تتمثل بالأدخنة وبالروائح، كما تعاني ربات البيوت من التذمر الدائم من الانشغال بازالة الأوساخ والغبار وهباب الفحم المحمل بالهواء، والذي يغطي المنازل والشرفات والنوافذ والألبسة والأثاث.
كما أن معظم هؤلاء لا يعلمون حقيقة ما يتعرضون له من أضرار صحية مباشرة بنتيجة استنشاقهم المتواصل لهذه الغازات والأبخرة والأتربة، كما لا يعلمون مقدار الأضرار البيئية الناجمة عن تلك المخلفات، وخاصة على مستوى مصادر رزقهم الأساسية والمتمثلة بالإنتاج الزراعي والحيواني، على اعتبار أن الغالبية العظمى من أهالي المنطقة يعتمدون على هذا الإنتاج كمصدر أساسي للرزق وللمعيشة، والخسائر التي يتعرضون لها يوماً بعد آخر جراء تراجع هذا الانتاج بنتيجة الأضرار المركبة من هذه المنشآت.
كما يشار إلى أنه لم يسبق لأية جهة، صحية أو بيئية، رسمية أن قامت بدراسات وإحصاءات جدية عن تلك المنشآت وتأثيراتها الصحية والبيئية، على مستوى العاملين بهذه المنشآت، أو على مستوى السكان والأهالي المقيمين في القرى والبلدات القريبة، أو على مستوى الاستنزاف الاقتصادي، قريب وبعيد المدى، المرافق لاستمرار عمل هذه المنشآت.
صناعات قذرة وملوثة
خبراء واختصاصيو الصحة والبيئة على المستوى الدولي متفقون على أن هذه الصناعات تعتبر من الصناعات القذرة والضارة والملوثة للبيئة والخطيرة على صحة الإنسان، لذلك كان لابد من وضع العديد من الشروط والضوابط والقيود عليها، إن كان ناحية البيئة أو ناحية الصحة العامة والخاصة، سواءً على مستوى العاملين في المنشآت الخاصة بتلك الصناعات، أو على مستوى المواطنين المقيمين في المناطق القريبة من تلك المنشآت والتي يمكن أن تصل مخلفاتها إليهم، مع الأخذ بعين الاعتبار موضوع الأجور المرتفعة التي يتقاضاها العاملون في تلك المنشآت كتعويض مباشر لمخاطر العمل على المستوى الصحي، علماً أن العديد من البلدان الصناعية تخلصت جزئياً من مثل تلك الصناعات القذرة، والتزمت بمعايير الصحة والبيئة على منشآتها القائمة.
اقتراحات مغيبة
طبعاً هذا في البلدان المتقدمة، وليس في منشآتنا العاملة منذ عقود دون أدنى درجات الرقابة البيئية والصحية وشروطهما، ناهيك عن أن العديد من العاملين في تلك المنشآت يصابون بالعديد من الأمراض المهنية، دون علمهم، وإن علموا بذلك فعوضهم على الله!، على الرغم من العديد من الاقتراحات والوعود التي ما زالت حتى الآن حبراً على ورق، كما ما زالت معاناة الأهالي والعاملين تراوح في مكانها، كما أن الطبيعة الساحرة للمنطقة والتي تعتبر من خلالها منطقة سياحية أصبحت تفقد بريقها عاماً بعد آخر.
ومن جملة ما تم اقتراحه ويتم إعادته بين الحين والآخر، هو تركيب الفلاتر في هذه المنشآت الصناعية، مع مراعاة نقلها إلى أماكن بعيدة عن المناطق المأهولة بالسكان، وتحويل آليات تشغيلها من الفيول إلى الغاز، وتشجيع زراعة الغابات الحراجية بكثافة بالقرب منها لأنها تساعد وبشكل كبير على امتصاص الغازات السامة وتنقية الهواء، وغيرها العديد من الاقتراحات الأخرى، التي ما زالت غائبة ومغيبة.