واضح كالماء ... بسيط كرصاصة

نعم هناك شيء ينقرض، ولكن هذا الذي يموت لا يقبل الموت، إنه يقاوم، يقاتل من أجل بقائه، إنه يدافع ضد فنائه بشراسة، وبالمقابل هناك شيء جديد يأتي إلى الوجود ولكن هذا الذي يولد لا يولد  بهدوء، هو يصرخ وينشج  مقاتلا عن حقه في الحياة

مخاض الولادة عسير حقاً. الصراع بين الفضاء السياسي القديم والجديد،  بين الذي يحتضر والذي يولد هو أساس تطورنا وتقدمنا فيما نحن فيه الآن من أزمة وطنية عميقة في البلاد، وقبل أن يتهمنا البعض - الذي يظن نفسه هو وليس سواه قد رضع من أثداء الحقيقة والمعرفة بكل بواطن الأمور -  بأننا نمارس أساليب الأستذة ونكرر كلاماً ومقالات أصبحت ممجوجة ومقرفة على مسامع هذا البعض، العارف والمصر على الذهاب بعيدا في حميته الطبقية عن كل الحلول السياسية متعمداً ذلك، نقول لهذا البعض إن اخترنا مثالاً،  كلماته بسيطة كالماء لكنه واضح كالرصاص، مثالٌ يوصّف موقفنا مما يحدث في البلد وما حولها إقليمياً ودولياً، ولعلنا نبسّط دون تسطيح المفاهيم السياسية الكبيرة والتوازنات الدولية المعقّدة، ونوصل من خلال كل ذلك كيف نميّز بين الموقف الوطني والآخر اللاوطني و بالتالي رفضنا للمشروع القديم_الجديد في  «سوريا ستان» أو سورية المفتتة على أسس طائفية وقومية وغيرها .... في العمل الدرامي الكوميدي «الخربة» تبنى الأحداث على موقف «أبو نمر» و«أبو نايف»، اللذين هما الزعيمان بالوراثة للعائلتين الأساسيتين في القرية، تلك الشخصيتان تمثلان في الجوهر التسلط الاجتماعي والسياسي عملياً، وفيهما من الفساد والانتهازية الكثير الذي يظهر جلياً مدفوعين إلى تلك المواقف من مصالحهما الطبقية عملياً، إذ إن زعامة العائلتين تضمن ثبات توزيع الثروة لمصلحتهما أكان في الأراضي أو المحاصيل أو الهدايا ..الخ عبر سيطرتهما على القرار النهائي في كل ما يتعلق بحياة تلك العائلتين، من هنا يأتي الدافع الحثيث للتدخل بكل الشؤون الخاصة والعامة ومهما كانت تكاليف ذلك، هذا في السياق الدرامي للعمل المذكور وعلى نطاق تلك القرية الصغيرة النائية، لكن في الواقع نجد تجسيداً لذلك الصراع تمثله وبوضوح شديد قوى التشدد والفساد في النظام والمعارضة، التي تحاول جاهدة إطالة عمر الأزمة الوطنية  بتصعيد الاشتباك الداخلي واستمرار نزيف الدم السوري. وأهالي قرية «الخربة» هم حقيقة الشعب السوري المتضرر من قوى الفساد والتشدد المصرة على قسمته على ثنائية وهمية هي إما العائلية أو الطائفية أو ثنائية معارضة_موالاة، والهدف من تلك الثنائيات الوهمية حرف وتشويه الصراع الرئيسي، الصراع بين ناهب ومنهوب و بين منتفع من الفساد ومتضرر منه، بالتالي إظهار التناقضات الثانوية الوهمية بين العائلات المتناحرة – في مثال العمل الدرامي-  على أنها الرئيسية عوضاً عن الصراع الأساسي الطبقي بين الناهب والمنهوب، أما المشاجرة الدامية بين العائلتين وسقوط جرحى من الطرفين نتيجة تدخل زعماء العائلتين ضد رغبة ومصلحة الأفراد التابعين، تلك المشاجرة والصدام تأخذ مداها وتسبب من الأذى والمشاكل والخلافات حتى تصل حدّها الأقصى الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى تغيير المزاج الشعبي المنقسم وأخذه اتجاه المحافظة على السلم الأهلي كخط أحمر يمثل المصلحة الحقيقية الوحيدة للجميع، والذهاب نحو المصالحة الأهلية الشعبية تجلى ذلك المسعى بالعرس بين العائلتين في المشهد الأخير –المقاربة هنا هي في رفض العنف تجاه أبناء القرية_البلد الواحد والسعي للمصالحة الشعبية الأهلية الوطنية-، المشهد الأخير يُعلِن انتصار الإرادة الشعبية لأهالي القرية وعزل عقلية «أبو نمر» و«أبو نايف»  الأحادية      والمتسلطة والفاسدة والمتقاتلة ظاهرياً وهي في واقع الحال كانت متحالفة بحكم المصالح الطبقية.

في النهاية الشعب المكوّن والساكن في القرية،  كوّن ذاك الفضاء السياسي الجديد الذي وُلد بعد مخاض عسير ونفى ما قبله معلناً التحول النوعي الجديد. أما «أبو نايف» و«أبو نمر» الفضاء السياسي القديم- الميت أصلاً سريرياً - المدافع عن بقائه ضد  فنائه، تُعلَن وفاته وموته المحتم وخروجه من الفضاء السياسي الجديد بالوصول المتأخر بعد انتهاء العرس «الوطني»، عرس المصالحة بين العائلتين، وعزلهما بشكل نهائي كونهما يمثلان التشدد والفساد في طرفي الصراع...

واللبيب من الإشارة يَفهمُ، ومن وحي التجربة.. ينضج ويتعلم .