حلويات مجبولة بحقوق المحتاجين

حلويات مجبولة بحقوق المحتاجين

يقفون أمام الملأ، ويبدأ البازار، وعند الاتفاق بين الطرفين، تصل تلك المواد بسلاسة إلى السوق السوداء، العلنية والبعيدة عن أعين الرقابة بذات الوقت. احتشد بضعة أشخاص أمام منفذ توزيع للمساعدات الإغاثية الغذائية في الزاهرة القديمة، مهمتهم اقناع الذين يحصلون على مخصصاتهم ببيعها، كلها أو جزءاً منها، بأسعار تختلف وقفاً للمادة المشتراة، وبعدها إما يقومون بتجميعها وأخذها إلى مكان مجهول، أو بيعها مباشرة على بسطات أمام تلك المراكز بسعر أرخص من مثيلاتها في الأسواق.

طارق اصطف على طابور المساعدات في تلك المنطقة، ينتظر وصول دوره، وخلال تلك الفترة، بدأ السماسرة بإقناعه ببيع كيس الحليب الذي سيحصل عليه بسعر 1000 ليرة سورية، علماً أن سعره في السوق يتجاوز الـ2000 ليرة من نوعيات تجارية معروفة.

نوعيات رديئة مصيرها الإتلاف أو!

يقول طارق «لا أريد بيع الحليب، فأنا بحاجة إليه، وسعر الشراء الذي يعرضونه غير مغري، لذلك سأبيع العدس والمعكرونة والأرز، فهي بنوعيات رديئة لا تنفع لشيء، والأفضل أن أبيعها بأي سعر أفضل من إتلافها. هؤلاء سيحولون العدس إلى مجروش ويبيعونه بسعر مرتفع، وسيحولون الأرز إلى أعلاف للطيور، والمعكرونة إلى شعيرية».

أحد باعة الحلويات في منطقة  الميدان بدمشق، يؤكد أن «بعض صانعي الحلويات يقومون بطحن معكرونة المساعدات، بعد شرائها بسعر رخيص جداً يتراوح مابين 10 إلى 25 ليرة سورية للربطة الواحدة، واستخدامها في العجين بدلاً من السميد، أو وضعها بدلاً من الشعيرية»، وأردف «حتى حليب المساعدات يذهب غالباً إلى صانعي الحلويات أيضاً».

لكن ليس كل ما تتم المتاجرة به من مواد المساعدات الإنسانية يذهب لصانعي الحلويات، فبعد تجميعها في مستودعات ضخمة من قبل تجار، مهمتهم تسهيل العملية بين الأطراف المستفيدة، تذهب تلك المواد إلى المحلات التجارية أو بعض الشركات الصغيرة، التي تقوم بتزوير اللصاقات والتلاعب بتاريخ الصلاحية وبلد المنشأ، أو تذهب إلى معامل الحلويات.

العقوبة تشجّع  على المتاجرة بالمساعدات!

عقوبة الاتجار بالمساعدات الإنسانية في السوق السوداء، سواء كانت مستودعات ضخمة، أم بسطات صغيرة، هي من 30 إلى 60 ألف ليرة، أو السجن من شهر إلى شهرين، وقد يرافق ذلك إغلاق المحل المخالف لشهرين أو سحب الترخيص، وذلك وفقاً  للمادة 24 من قانون حماية المستهلك رقم 14 لعام 2015.

فبعد أن كانت تجارة المواد الإغاثية غير مدرجة ضمن عقوبات القوانين السورية، عاد قانون حماية المستهلك ليدرجها مؤخراً عام 2015،  وقد بلغت الضبوط بخصوص المستودعات الضخمة التي تتاجر بالمواد الإغاثية منذ شهر آب وحتى الشهر الأول من 2016، 36 ضبطاً فقط.

وبينما وصل عدد الضبوط الكبيرة بخصوص الإتجار بالمساعدات إلى 36 فقط، حذرت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، المواطنين مؤخراً، من عقوبة السجن والغرامة ذاتها التي يتعرض لها تجار المواد الإغاثية، أكانوا أصحاب مستودعات أو محلات أو بسطات، وهي الغرامة من 30 إلى 60 ألف ليرة سورية، أو السجن من شهر إلى شهرين، ما وجد به البعض «عقوبة مشجعة للتجار والسماسرة للاستمرار بالمتاجرة بالمساعدات الإنسانية» في إشارة لعدم صرامتها.

المواطن الذي يبيع يسجن!

وقال مدير حماية المستهلك في وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، باسل طحان، في حديث إذاعي مؤخراً، إن المواطن الذي يضبط وهو يبيع مواد المساعدات التي تقدمها الجمعيات والجهات الدولية الإغاثية، إلى أحد التجار أو المحال، سيتعرض لعقوبة السجن أو الغرامة.

وأوضح طحان أن «الشخص الذي يبيع أو يشتري المساعدات الإنسانية، سواء كان مواطناً عادياً أم تاجراً، هو شريك في العملية نهاية الأمر، وسيتعرض للعقوبة ذاتها».

تلك التحذيرات،  أطلقتها وزارة التجارة، في وقت استفحلت به تجارة المواد الإغاثية، ووصولها إلى غير مستحقيها، وانتشار سوق سوداء علنية، لم تستطع الوزارة مكافحتها، حتى تهدد المواطن بالسجن أوالغرامة لقيامه بأمر قد يكون مضطراً إليه للحصول على المال، تحت ضغط الحاجة والواقع المعاشي المتردي!

بداية الخلل 

الأجدر، من وجهة نظر حسام، وهو متطوع سابق في إحدى الفرق التطوعية بدمشق، والتي تقوم بتوزيع المساعدات على المحتاجين بعد جمع التبرعات، هو أن تتم مراقبة آلية توزيع المساعدات، لضمان وصولها إلى مستحقيها، وبالتالي الحد من وصولها إلى السوق السوداء.

وقد علمنا أن بعض الجمعيات تعمل دون غطاء قانوني «دون ترخيص»، ويتم تمويلها بالتبرعات كما يتم تزويدها بالإعانات، كما توزع بعض إيصالات المساعدات، عبر الواسطة والمحسوبية والفساد، لغير المستحقين، وذلك دون التوقيع على أي وصل استلام، ليكون لهم حرية التصرف بها، بغض النظر عن المستفيد منها والجهة التي ستنتهي إليها تلك المساعدات، علماً أن الإيصالات عادة يتم توزيعها بعد لقاء مع خبير اجتماعي يقيّم الحالة الاجتماعية والمعيشية للمستفيدين.

الخروقات أو الثغرات، التي تؤدي بالنهاية لوصول المساعدات الإنسانية إلى السوق السوداء، لا تتوقف عند منافذ التوزيع أو آلية عمل الفرق التطوعية والجمعيات الخيرية، حيث أكد متطوع سابق في  مركز إيواء «للنازحين في دمشق» والذي أصبح خارج القطر قبل شهور، أن موجة النزوح داخل سورية، قللت من وجود الرقابة أو المحاسبة على مراكز الإيواء، والتي تحصل على مساعدات من الفرق التطوعية المختلفة، مشيراً إلى أن مشرف المركز، وهو متطوع عادة، يملك صلاحيات واسعة تتيح له التلاعب بأي شيء.

قوائم «منزّلة» دون رقابة ولا إحصائيات

المتطوع السابق، الذي فضل عدم الإفصاح عن اسمه، قال إن «الخطأ الرئيسي في مراكز الإيواء، هو وجود تمويل كبير من قبل الجهات المتبرعة، بينما لا توجد أية سجلات توثق بأن مسؤولي المراكز وزعوا مبالغ أو مساعدات في المراكز. فجميعهم متطوعون لايتقاضون أي راتب، وفي النهاية لايتحملون أية مسؤولية».

المتطوع أكد أن «إحدى القائمات على عدد من مراكز الإيواء في دمشق، كانت مهمتها استلام النقود من الجهات المتبرعة، وشراء  مواد غذائية بها، وبعدها توزعها على مراكز الإيواء المؤتمنة عليها، ومشرف مركز الإيواء، يقوم بدوره بالتوقيع على استلام الحصص فقط، دون أن يتدخل أحد في مصير هذه المساعدات لاحقا». 

وأوضح أن «مشرف المركز قادر وبسهولة على التلاعب بقوائم مراكز الإيواء، وأن يضع أسماءً وهمية كما يريد»، ضارباً مثلاً على ذلك «وفقاً لإحصائيات غير دقيقة قمت بها مع مشرف المركز، كان هناك 400 نازح،  قمنا بتصنيفهم على الورق بحسب الجنس والعمر، ويمكنني أن أضيف أسماءً وهمية عندما أريد»، مضيفاً «كنت أقوم بالإحصائية هذه أنا ومشرف المركز وشخص ثالث كل 3 أشهر، وبالتأكيد هناك أخطاء».

وبحسب المتطوع السابق «لايمكن لأية جهة أن تقوم بإحصائية دقيقة كاملة للمتواجدين في مراكز الإيواء نتيجة حجمها الكبير، وكثرة الأسر الموجودة، وعدم القدرة على إلزام جميع من في المركز بالمكوث في الغرف، وفي النهاية لا توجد أية جهة تفرض رقابة على مراكز الإيواء، سوى الجهة الإغاثية التي تضع في المراكز متطوعين».

 وأردف «القوائم الموجودة عند مشرف المركز (منزّلة) لأنه لاخيار آخر ولا بديل، فإن قال لهم المشرف لدي 500 أو 100، فلا يوجد خيار آخر أمام الجهة المانحة سوى تقديم المعونات».

وأشار إلى أنه «لا توجد أية جهة تحاسب أو تدقق، مثلاً، عندما تكون الجهة الإغاثية (س) مسؤولة عن مركز إيواء معين بمتطوعيها، يعني ذلك أنه لا توجد أية جهة أخرى تفرض رقابة على عملها وعمل متطوعيها، ويكون مشرف المركز، المتطوع فيها أيضاً، هو المعني الأول والأخير بكل شيء في المركز دون أية رقابة أخرى، بينما ينحصر دور مندوبي محافظة دمشق على حراسة المركز».

تلك الثغرات كلها، تؤدي في النهاية إلى تسريب المواد الإغاثية إلى السوق السوداء، والمتاجرة بها بكميات ضخمة على حساب المحتاجين، نتيجة الخلل في الرقابة، بحسب المتطوع.

أخيراً

موضوع الإتجار بالمساعدات والإعانات الإغاثية عمره من عمر أزمة السوريين، النازحين والمهجرين، وقد بات واضحاً أن هناك شبكة استفادة واسعة من تلك المساعدات، وقد طورت من آليات عملها خلال تلك السنين، ولعله من الجيد أنه صدر مؤخراً نص قانوني يجرم الإتجار بتلك المساعدات، ولكن مع ذلك ما زالت موجودة على البسطات وفي المحال التجارية، ما يعني أن العقوبات المنصوص عنها، وآلية المتابعة والتحقق، لم تجد نفعاً حتى الآن. وإلقاء اللوم على المواطن، النازح والمهجر، بوصول تلك المساعدات إلى الأسواق، (تحت ضغط الحاجة، أو كون تلك المساعدات، وخاصة الغذائية منها، ذات مواصفة وجودة سيئة)، وهو الحلقة الأضعف في تلك الشبكة، يعني فيما يعنيه، التهرب من استحقاق إعادة النظر بالآلية المتبعة في توزيع المساعدات على مستحقيها، والمحاسبة الجدية للسماسرة والفاسدين وتجار الأزمة، الذين يغتنون على حساب عذابات المواطن السوري.