ثقافة وشطارة
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

ثقافة وشطارة

في مرور سريع من أمام سوق « البوليفار» في دمشق، استوقفتني العديد من الأسعار المعلنة على بعض السلع والمعروضات، والتي وصل بعضها إلى عشرات الآلاف من الليرات السورية، وما تلك السلع والمعروضات إلا بعض العطور والجزادين والألبسة النسائية، وتساءلت مع نفسي، ما تلك الثقافة الاستهلاكية التي غزتنا، والتي تجعل أحد أفراد مجتمعنا، وبظل هذه الأزمة الخانقة، من أن يقتني تلك السلع والمعروضات بهذه الأسعار الخيالية.

من المعلوم بأن الاقتصاد يقوم عملياً على عمليتين أساسيتين هما الإنتاج والاستهلاك، ولئن كان بعض البشر منتجين، فإن جميعهم مستهلكين، وقد تفنن الناس في أساليب الإنتاج، فقاموا على تطويرها عبر الزمن، كما تفننوا في أساليب الاستهلاك، حتى بات لدى البعض منهم مجرد «هواية»، أو»متعة»، بعيداً عن الحاجة ودوافعها، وهو ما تقوم عليه وسائل الدعاية والترويج والتحريض على الاستهلاك، والمزيد منه أبداً، مع تغييب الغاية النهائية من تزايد معدلات الاستهلاك والمتمثلة بكم الأرباح المحققة لجيوب القلة، ولتتمثل عملية الاستهلاك وثقافتها المرتبطة، وكأنها حالة حيادية لا علاقة لها بنمط الاقتصاد العام السائد، وهو الاقتصاد الرأسمالي، الذي يراكم رأس المال أرباحه عبرها.

دعاية وإعلام وجوع

كما أبدع الإنسان ثقافاته عبر الزمن وطورها، فقد أبدع ما يسمى بثقافة الاستهلاك، المرتبطة بالاحتياجات المتنامية لديه، وقد طرأ على تلك الثقافة هيمنة وسيطرة شبه مطلقة مع تطور المجتمع والاقتصاد الرأسمالي، حيث بات جزءاً هاماً من الاستهلاك مرتبطاً بكم الإغراءات والدعايات على المنتج، بغض النظر عن تلبية الحاجة الاستهلاكية الفعلية له.

تلك الثقافة التي باتت مرتبطة بحجم الدعاية والإعلان، والتي يغدق عليها سنوياً بالمليارات، زادت عملياً لدى الناس من إحساسهم بالفقر والحرمان، حيث أن قلة من الناس بات لديهم نوع من الشَّره على الاستهلاك الفائض عن الحاجة، في حين أن الغالبية المطلقة منهم يبحثون عن قوت يومهم، ومستلزمات حياتهم الضرورية.

وبالتالي فإن الاقتصاد الرأسمالي، القائم على السوق، لم يعد فيه الإنتاج مرتبطاً بالحاجات المتنامية للإنسان، بل بات قائماً على المستهلكين الذين ما فتئوا يحثوهم على المزيد من الاستهلاك، وبالمحصلة فقد أصبح جزء هام من الإنتاج لا يتعدى كونه وهماً يتم تسويقه وبيعه، عبر آليات العرض والطلب، والدعايات المصحوبة، ولعل الأمثلة على ذلك كثيرة جداً، اعتباراً من أنماط استهلاك الوجبات السريعة، بالمطاعم ذات التسميات والشهرة، التي أصبحت لها الصبغة العالمية، مروراً بأجهزة الاتصال الخليوي، والتقانات المصاحبة الأخرى، وليس انتهاءً بالألبسة والعطور، وغيرها.

الاستهلاك هدف نهائي!

الحديث عن الاستهلاك يربطنا مباشرة بالإنفاق المصاحب له، والطريقة التي يقوم فيها الفرد أو الأسرة في إنفاق النقود، لسد الحاجات البيولوجية والاجتماعية والثقافية وغيرها، وهو ما تسعى إليه قوى السوق عبر فرض أنماط استهلاك بعينها على الأسر والأفراد، عبر التسويق والدعاية، لتغدو ثقافة الاستهلاك مرتبطة عضوياً بمفهوم النزعة الاستهلاكية، التي تميز الأفراد عبر سلوكهم الاستهلاكي، وبالتالي تنعكس، بشكل مباشر أو غير مباشر، على التفاعل الاجتماعي بين الناس.

على ذلك فقد بات ما يستهلكه الفرد هو نتاج تلقائي لما يستهلكه الآخرون، عبر التقليد في الاستهلاك وأنماطه، وبالعودة إلى الجانب الاقتصادي للسوق الرأسمالي، فإن الاستهلاك هو الغرض النهائي للنشاط الاقتصادي، خاصة مع ارتباط الاستهلاك بهلاك السلعة بعد الحصول عليها من قبل المستهلكين، وهو الهدف النهائي للإنتاج الرأسمالي، حسب آدم سميث، مع التعمد في إخفاء الوجه الحقيقي للمستفيدين من الإنفاق على الاستهلاك، عبر المزيد من جني الأرباح لمصلحتهم، وهذه عملياً هي الغاية النهائية للنشاط الاقتصادي الرأسمالي المغيبة، والتي يتم الالتفاف عليها عملياً.

عولمة الاستهلاك

ومع ظاهرة العولمة وهيمنة الشركات متعددة الجنسيات على الأسواق والسيطرة عليها والتحكم بها، ومع وسائل الدعاية والترويج والإعلام، والأموال الهائلة المصروفة عليها، بات الإنسان ضحية سهلة المنال لثقافة الاستهلاك، كما يروجها ويستفيد منها أصحاب رؤوس الأموال، حتى باتت معدلات الاستهلاك الفردية والمجتمعية تقاس عالمياً، ويتم التنافس بها، وتصنف تراتبياً، بغض النظر عن الحاجات الاستهلاكية الفعلية لهؤلاء الأفراد، أو لتلك المجتمعات.

ومن خلال تلك التصنيفات والتراتبيات، يتضح بما لا لبس فيه ذاك التباين العملي بين الدول والمجتمعات، مع تلك التمايزات الواضحة بين الشرائح والطبقات الاجتماعية، محلياً وإقليمياً وعالمياً، كما اتضح أكثر ذاك التبدل في ثقافة العمل والإنتاج مع تبدل ثقافة الاستهلاك، حيث بات العمل المنتج ثانوياً أمام كم الاستهلاك وثقافته، والتنافس عليه.

تحديات

وبظل هذا العالم غير المتوازن، والذي يدعم ثقافة الاستهلاك بالمليارات سنوياً، وخاصة الترفي منها، أو سريع الاهتلاك، الذي لا يرتبط بالإنتاج والتنمية، فإن تحديات حقيقية وفعلية علينا مواجهتها، إن عاجلاً أم آجلاً، وذلك من أجل إعادة توجيه الثقافة الاستهلاكية في مجتمعنا، كما غيرها من القيم والمفاهيم الكثيرة المرتبطة بحياة الفرد والمجتمع، التي من الواجب إعادة رسمها بدقة، وهو ما يجب أن تقوم عليه «الحكومة»، بالتعاون مع المجتمع الأهلي ومؤسساته، ولعل أولى الأولويات بذلك، هي القطع مع تلك السياسات الليبرالية المتوحشة، التي سارت عليها الحكومات المتعاقبة، والتي ساهمت بشكل مباشر في انحدار ثقافة الإنتاج، بل والشروع في قتلها، بالتوازي مع تعزيز ثقافة الاستهلاك، لنرى ونشاهد يومياً ذاك الاستهلاك الترفي الذي ينعم به البعض من المستفيدين المحليين من انتشار وتعزيز تلك الثقافة، من كبار التجار والمستوردين والفاسدين مع تجار الأزمة الحاليين، الذين يسعون لتعزيز تلك الثقافة من أجل جني المزيد من الأرباح المحققة لجيوبهم، على حساب الوطن والمواطن والتنمية، بل ووصل الأمر لدى هؤلاء ليغرقوا الأسواق بسلع وبضائع، منها سريعة الاهتلاك والعطب، بل ومنها غير الصالح للاستهلاك البشري. 

طفيلية وفساد

الملفت للنظر أنه مازالت، رغم الأزمة العاصفة، تنتشر تلك المحال الكبيرة، التي يتم عبرها ومن خلالها غسل رؤوس الأموال المنهوبة عبر آليات وأدوات الفساد، بالتعاون مع كبار التجار والمستوردين، تمهيداً لإعادة تدويرها بشكل رسمي، والتي تستقطب بآن معاً تلك الشريحة من المستهلكين الكبار، المتباهين بأنماط وثقافة الاستهلاك لديهم.

إن الإفقار المتزايد لشرائح واسعة من المجتمع، وازدياد منافع ومكاسب شريحة كبار التجار والمستوردين، والمنتفعين من الأزمة حالياً، عبر تلك السياسات، أدت بالمحصلة إلى تعزيز وجود وانتشار الكثير من الثقافات والعادات الهدامة مجتمعياً، ليس آخرها ثقافة الاستهلاك المنتشرة حالياً، والمرتبطة، بشكل مباشر أو غير مباشر، بانتشار وتوسع ثقافة الفساد، التي بات يعتبرها البعض «شطارة»، كما هي مرتبطة بشكل مباشر بتلك الشريحة الطفيلية في المجتمع، التي اغتنت وراكمت الثروات على حسابه، بعيداً عن الإنتاج والتنمية.