الفيتو الروسي والصراع على سورية
ميثم الجنابي ميثم الجنابي

الفيتو الروسي والصراع على سورية

 توطئة

 

إن مهمة هذا المقال وما يستتبعه هو إثارة الجدل العقلي والعقلاني من اجل إعادة التأسيس الفكري لترتيب الكينونة العربية على مستوى الدولة والنظام السياسي والثقافة. وبالتالي لكي لا تكون سورية سلعة (كما كانت الحال بالنسبة للعراق) تباع وتشترى في أسواق دويلات الجزيرة شبه العربية! أو أن تكون ميداناً لتجريب المصالح الدولية (الاوروامريكية بشكل خاص) والإقليمية أياً كانت مواقعها ونواياها.

إن إلقاء نظرة سريعة على ما يكتب من مقالات صحفية وسياسية عن طبيعة الصراع الدائر في سورية وحولها، على صفحات مختلف المواقع والجرائد والمجلات وما تنشره مراكز البحث المتخصصة داخل العالم العربي (قطر بالأخص) وخارجها (الولايات المتحدة الأمريكية بالأخص)، تكشف عن هيمنة الرؤية المتحزبة والوجدانية الضيقة والمصالح الخفية والعلنية. وهو أمر عادي بل وطبيعي بالنسبة لقضية من هذا القبيل. خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار طبيعة التحولات الدرامية الهائلة التي عصفت في العالم العربي وما تزال تعصف به بشكل عام وخصوصية الحالة السورية سواء جرى النظر إليها بمعايير الفكرة الوطنية (السورية) أو القومية (العربية) أو الإقليمية (الصراع العربي الإسرائيلي) أو المصالح المتنافرة والخفية الإقليمية (تركيا وإيران) وما وراءها من صراع جيوسياسي واقتصادي وعسكري وثقافي عالمي (غرب - شرق، أو اوروأمريكي وروسي صيني).

أما في الواقع فإننا نقف أمام حالة تتداخل فيها كل هذه المكونات والمقدمات على خلفية تاريخ قائم وقاتم بالقدر ذاته وراء صيرورة الدولة السورية الحديثة ونظامها السياسي المتعثر! من هنا أهمية الرؤية المنهجية الدقيقة والعميقة من جانب رجال الفكر والثقافة من اجل تحرير وتنوير العقل بالشكل الذي يخدم إرساء أسس البدائل الفعلية للدولة الشرعية والنظام السياسي الاجتماعي العقلاني والديمقراطي.

 وسورية تمر بمرحلة درامية معقدة وصعبة، وتتفاعل فيها وحولها، ما تدعوه لغة الفلسفة بتناقضات الخلف، أي التناقضات التي تتعادل في أسلوبها ونتائجها! إذ يقف الفكر أمام حالة حرجة للغاية: نظام سياسي مبني على تقاليد حزبية وعقائدية عفا عليها الزمن، ودولة مرتبطة به من حيث أنساقها وأسسها ولحمتها الحالية. بمعنى الوقوف أمام إشكالية عقلية ووجدانية بقدر واحد: أولوية النظام السياسي أم الدولة؟ أولوية الفكرة العقائدية والحزبية (الديماغوجية في أغلبها من جانب السلطة والمعارضة على السواء) أم الوطن والقومية؟ بعبارة أخرى، هل ينبغي إعطاء الأولية للخاص على العام، وللجزئي على الكلي أم بالعكس؟

إنني من الناحية الفكرية والمبدئية الملموسة (القضية السورية الحالية) أقف إلى جانب أولوية الدولة والوطن والقومية والعام والكلي وليس إلى جانب أولوية النظام السياسي والفكرة العقائدية والحزبية والخاص والجزئي. ولا يقلل ذلك من جوهرية النظام السياسي والخاص والجزئي بالنسبة للبدائل. على العكس. أن أولويته مرتبطة فقط بحالة الاستقرار والإجماع. وإذا نظرنا إلى الظرف الحالي الذي تمر فيه سورية، فان الموقف العقلاني والوطني (السوري) والقومي (العربي) يجعل من الضروري البحث عن حلول تقف خارج الحدود الضيقة والصيغة الدموية للسلطة ومعارضتها. بمعنى البحث عن بدائل تتعدى حالة الانغلاق الحالية، بالشكل الذي يجعل من البديل الديمقراطي الاجتماعي الإصلاحي للنظام السياسي الحالي (وهو مطلب ينبغي تأييده 100%) أسلوبا لديمومة الدولة ووحدتها الداخلية ومضمونها القومي (العربي).

أما بالنسبة لبعض الآراء فانها تسير بالاتجاه المعاكس حالما يجري التطرق إلى القضية ضمن سياقها العالمي. بمعنى أن هذه الآراء تنظر إلى الأبعاد العالمية للقضية السورية بمعايير الرؤية المحلية. وهذا خلط في الرؤية وخلل في منهج التأمل العقلي للأبعاد الجيوسياسية والإستراتيجية في القضية السورية وموقف الأطراف المتصارعة حولها. فعندما نفرز أهم الآراء التي تحتويها تلك المقالات فإنها تتركز في خمسة وهي:

1. أن السلوك الروسي والصيني هو تدخل خارجي في الشأن السوري. بينما تعتبر السلطة السورية التدخل الخارجي غير مقبول (خط احمر).

2. الشك بوجود مؤامرة خارجية حول سورية، وأنها مجرد دعاية سياسية من جانب السلطة السورية

3. وان روسيا تدعم سورية بالسلاح

4. وان الفيتو الروسي والصيني مخيب لمطامح الشعب السوري

5. وان الفيتو يهدف إلى مصالح أنانية ودنيئة اقتصادية أو أيديولوجية قائمة على الشمولية والظلامية الدبلوماسية – السياسية

6. وان هذا الفيتو نموذج للتراجع في منظومة القيم الإنسانية ومبدأ تغليب الحقيقة والكرامة على ما عداها من المصالح.

مما لا شك فيه أن الدول جميعاً تتدخل بشؤون بعضها البعض. وللتدخل مستويات وغايات مختلفة ومحكومة بالإمكانيات الذاتية للدول. و»التدخل» الروسي والصيني له تاريخه الخاص، الذي كان من الناحية الفعلية داعماً لفكرة الدولة والقومية وحقوقها على مدار عقود مريرة من المواجهة والتحديات التي لازمت تاريخ الدولة السورية الحديثة. وان روسيا دعمت سورية بالسلاح على مدار عقود. وكان ذلك دوماً من بين مقومات استقلالها ووحدتها ومنعتها الوطنية والقومية. أما بالنسبة لفكرة المؤامرة، فإنها موجودة لا شك فيها. إنها جزء من لعبة المصالح الكبرى. وفيما لو جرى تحويرها بمعايير العبارة العلمية، فان «المؤامرة» جزء من معترك المصالح الجيوسياسية والاقتصادية والعسكرية، أي أنها عنصر من عناصر الرؤية العملية للمصالح الإستراتيجية. ولا اعتقد أن المرء بحاجة إلى كثرة المعارف والعقل الرزين من أجل رؤية هذه الحقيقة. فهي موجودة على الدوام. وتاريخ الإنسان، بما في ذلك في تطوره  الحضاري كان على الدوام وثيق الارتباط بالمؤامرة والمغامرة! ولا يعقل فصل تاريخ الدولة والسياسة والاقتصاد عنها. فالتشابك العلني بين الولايات المتحدة وأوربا الأطلسية وممالك وإمارات الخليج شبه العربية من جهة، ومعارضة روسيا والصين من جهة أخرى، تعكس دون شك تعارضاً وتضاداً في المصالح الإستراتيجية. وبالتالي، فأن تحول سورية إلى ميدان معترك المصالح هو نتاج الضعف السوري والعربي عموماً ولكنها حالة واقعية. وإذا كان الفيتو الروسي الصيني مخيباً «لمطامح الشعب السوري»، فأنه دون شك ليس لجميع ولا حتى لأغلبية الشعب السوري. بل على العكس. وهو مؤشر ليس على فضيلة طرف على آخر، بقدر ما يعكس طبيعة ومستوى الانقسام الوطني، ومن ثم ضعف الوحدة الداخلية التي تجعل من السهل التدخل في شؤون سورية الداخلية. مع ما يترتب عليه من إضعاف لمناعتها الذاتية.

أما الاستنتاج القائل، بان الفيتو الروسي الصيني «يهدف إلى مصالح أنانية ودنيئة اقتصادية أو أيديولوجية قائمة على الشمولية والظلامية الدبلوماسية – السياسية» وأنه «نموذج للتراجع في منظومة القيم الإنسانية ومبدأ تغليب الحقيقة والكرامة على ما عداها من المصالح» فإنه يعكس ما أسميته بالخلل المنهجي في الرؤية الإستراتيجية والقومية على السواء.

مما لا شك فيه أن لروسيا والصين مصالح إستراتيجية في الموقف من سورية. ولكنها هل هي «دنيئة وأنانية» فعلاً؟ وما معنى ذلك؟ وما هي المعطيات الملموسة والإحصائيات؟ وأنها «دنيئة» مقارنة بماذا وبمن؟ وهل يعني ذلك أن الموقف الأمريكي والتركي والأوربي (الفرنسي والانجليزي)، أي الدول التي كان تاريخها وسياستها على مدار قرون وليس عقوداً هو تجسيد للاحتلال والتجزئة والمهانة القومية، هو تمثيل لفكرة «تغليب الحقيقة والكرامة على ما عداها من المصالح»؟

إن التحليل العلمي للموقف الروسي الصيني من الصراع الدائر حول سورية يفترض الارتقاء إلى مصاف الرؤية الإستراتيجية لطبيعة الصراع العالمي الحالي، والصعود الروسي والصيني المنافس لفكرة القطب الواحد والهيمنة الأمريكية والاستفراد الأطلسي بالقوة، على خلفية وآثار الثورات العربية الحالية بوصفها حدثا كونياً هائلا، أي كل ما يثير تسابق القوى العالمية من أجل التحكم بها أو امتطائها أو حرفها عن مسارها التاريخي الطبيعي. وهي عملية معقدة ومتداخلة ومتناقضة. لكن الفرضية التي أضعها الآن هي أن الموقف الروسي والصيني لا علاقة له بالدناءة والمصالح الأنانية والتراجع عن القيم الإنسانية، بل على العكس تماماً من ذلك. وهو ما سأحاول البرهنة عليه في المقال اللاحق.