ظاهرة التسول .. جوانب مغفلة .. ومافيات منظمة
ظاهرة التسول ليست وافدة على مجتمعنا، كما غيره من المجتمعات، ولكنها متباينة بتباين طرق ووسائل التعامل معها، اعتباراً من القوانين المعمول بها للحد من تلك الظاهرة، مروراً بالرعاية الاجتماعية ودور المنظمات الاجتماعية الرسمية والأهلية.
التسول نتيجة وليس خيار
من جملة ما خلفته الحرب الدائرة من أزمات وظواهر سلبية، كانت ظاهرة التسول هي الأكثر انتشاراً، فالحرب والنزوح والبطالة وارتفاع الأسعار وسياسات الحكومات المتتابعة، زادت من معدلات الفقر بشكل كبير.
والحاجة إلى تأمين متطلبات المعيشة بظل ما سبق، دفعت البعض للتسول كوسيلة لـتأمين المعيشة، بتعدد أشكاله ومتبعيه (نساء– أطفال– شيب)، كلٌ بوسائله، بما فيها غير المباشرة التي تحفظ “الكرامة” عبر بيع بعض المواد كغطاء لعملية التسول، حتى بات التسول مشهداً اعتيادياً، لم يعد يترك ذاك التفاعل العاطفي، بقدر ما يترك من تأفف، وذلك بسبب كثافة انتشاره، مع واقع معاشي عام يجنح نحو التردي، شمل المجتمع بكل شرائحه، (باستثناء أصحاب رؤوس الأموال والفاسدين وتجار الأزمة)، حيث أن ظاهرة التسول مرتبطة بالفقر وهي أحد تجليات نتائجه المباشرة، وهي بنهاية المطاف ليست خياراً فردياً، كما يحاول أن يصورها البعض، بقدر ما هي نتيجة لمجمل سياسات اقتصادية اجتماعية.
مع الأخذ بعين الاعتبار أن الكثير من الفقراء لا يلجؤون إلى التسول لكسب متطلبات المعيشة، كما بالمقابل هناك من صنع منه مهنة منظمة، عبر استغلال أصحاب الحاجة والأطفال، وذلك للغياب شبه التام لدور الرعاية الاجتماعية.
الأطفال أكثر المتضررين
لعل أكثر المتضررين من تلك الظاهرة هم الأطفال، وما تتركه من آثار سلبية نفسياً واجتماعياً وأخلاقياً، مع تزايد حالات التسرب من التعليم، وبوادر ظهور شبكات منظمة لتشغيل الأطفال، بعيداً عن أعين الدولة وجهات الرعاية الاجتماعية، أو إغفال عينيها عمداً.
واقع وقانون
ظاهرة التسول قانوناً من الجنح، وتتراوح عقوبتها بين الثلاثة أشهر والسنة، ومن يتم توقيفه يتم إيواؤه في دور مخصصة للخدمات النفسية والاجتماعية، وخدمات التأهيل المهني خلال فترة التوقيف، بغاية إعادة الادماج بالمجتمع.
ولكن أين ذاك الشكل النظري من الواقع المعاش اليومي!؟.
عند كل ناصية وفي كل ركن وسوق وشارة مرور و...، لا بد أن ترى متسولاً أو مجموعة منهم، يسألون التعاطف، أو يبيعون الخبز والمحارم والعلكة والبسكويت وغيرها.
هذه تحمل طفلها الرضيع، وذاك يجر معاقاً، وتلك تضع قصاصة كرتونية، ولا يخلو كل ذلك من استثمار الألم والمأساة الحالية، عبر بعض العبارات المضافة، كأن يقال: (أنا من نازحي منطقة كذا، أو فقدت معيلي ولم يعد لي من معيل، ابنتي مصابة وبحاجة لعمل جراحي)، والتي لابد سمعناها جميعاً.
الظاهرة أكثر عمقاً وتعقيداً .. وتنظيماً
إن عدم التصدي لتلك الظاهرة، سيؤدي إلى تفاقمها، مع آثارها على المستوى الاجتماعي، (لدى الأطفال بشكل خاص)، الذي قد يودي بالاتجاه الجرمي “سلب ونهب وسرقة”، مروراً بالجهل وظاهرة الأمية المرافقة، وغيرها من الظواهر التي تزيد الواقع بؤساً، إلى أن ندرك أن تلك الظاهرة أكثر عمقاً وتعقيداً وتنظيماً مما تبدو.
ذراً للرماد أم إجراءات
فبالاضافة إلى أهمية تعزيز دور الرعاية الاجتماعية، والشفافية المطلوبة في الممارسات العملية للجهات المسؤولة عنها، بغاية الحد من الفساد المستشري بها، مع التعديلات المطلوبة على التشريعات الخاصة بتلك الظاهرة وغيرها، وخاصة المتعلقة بالشبكات التي باتت تدير أعمالها، لا بد من إعادة النظر بالسياسات الاقتصادية المعاشية، وربطها بالمخرجات المتوخاة منها على المستوى الاجتماعي، حيث باتت آثارها السلبية أكثر وضوحاً بمخرجاتها حتى الآن، وثبت بأنها المتسبب الحقيقي بانتشار الكثير من الظواهر السلبية، وإن لم نعالج تلك الأسباب الحقيقية بشكل جدي، فإن أي إجراء آخر مثل: (التشدد بالعقوبات حسب القوانين، وغيرها..)، لن يؤدي إلا الى المزيد من تعمقها وتعقديها، ولن يكون إلا بمثابة ذراً للرماد في العيون.