المآسي والويلات.. في أحياء المخالفات.. اللاذقية نموذجاً..

المآسي والويلات.. في أحياء المخالفات.. اللاذقية نموذجاً..

(عين التمرة، بستان السمكة، الحمّامي، السكنتوري..) من أقدم الأحياء في مدينة اللاذقية، ومن أكثرها تهميشاً وفقراً وبؤساً وقهراً. 

 

فقد ابتُلِيت على مدار تاريخها بمسؤولين، ومن مختلف الاختصاصات والمراتب دون استثناء، كان همّهم الوحيد وما زال هو استغلال مناصبهم لمنافعهم الشخصية، وخدمةً للمتنفّذين والفاسدين، وبالأخصّ منهم من عيّنهم بمناصبهم تلك. 

وكانت من أواخر اهتماماتهم هذه الأحياء، وما يماثلها من أحياء فقيرة أخرى، والتي لم تشهد أيّ تطوّر يذكر منذ عشرات السنين، ولهذا لم يكن غريباً أن قاطنيها كانوا من المشاركين بمظاهرات عبّرت عن سخطهم وغضبهم من سوء أحوالهم، نتيجة الظلم التاريخي الجاثم عليهم أثناء احتجاجات 2011.

تقع هذه الأحياء المتلاصقة والمتداخلة، جنوب شرق اللاذقية، وسمتها الرئيسة اكتظاظها الفظيع بالسكن العشوائي، وغياب شبه كلي لأبسط الخدمات التي يتطلّبها العيش، مع غياب أيّ نظام عمراني أو اجتماعي، ولو بالوعود الكاذبة! أغلب سكانها يعملون بصيد السمك وبيع الخضار، وعتّالة بالمرفأ، وقيادة الطنابر وجمع الخردة، وغيرها من الأعمال الأخرى.. 

قاسيون.. رصدت الآلام 

«قاسيون» زارت حارات هذه الأحياء، التي يقارب عدد سكانها ربع مليون نسمة، خاصة بعد قدوم أبناء المحافظات الأخرى نازحين من جرّاء الأزمة، وتجوّلت في أزقّتها، وتحدّثت إلى أهاليها ورصدت أوجاعهم ومطالبهم، وجمعت عيّنات من أقوالهم وكانت الحصيلة التالية: 

أبو أحمد– صياد، جالس أمام دكّانه يكشّ الذباب عن سمكاته بيد، وبيده الأخرى يدخّن لفافة تبغ رخيصة، وبصوتٍ مبحوح هدّه الشقاء والتعب قال: بعض الناس يتغنّون باقتناء الكماليات والسفر بقصد السياحة والإقامة في أفخم الفنادق..، نحن همّنا وطموحنا ينحصر بتأمين لقمة العيش، والتخلّص من الروائح الكريهة بسبب تراكم الزبالة في شوارعنا، نحلم أن تتكرّم علينا شعبة المكافحة في مجلس المدينة برشّ المبيدات، للتخلّص من البعوض والبرغش والنمّوز والصراصير والجرذان..

خالد.ع – مصلّح كهرباء: لا أبالغ إذا قلت لك، بأنه يكاد لا يخلو بيت في هذه المنطقة إلا ويوجد فيه طفل متسرّب من المدارس، وأهم الأسباب هو الوضع المعيشي المزري للناس، ناهيك على أن أكثرية الأطفال لا يكملون تحصيلهم بعد مرحلة التعليم الأساسي، بسبب عدم وجود مدرسة ثانوية؟! لذلك عدد الطلاب الجامعيين في هذه الأحياء قليل جداً، وتابع بتهكّم: يا أخي لا نريد حدائق عامة وملاعب ومنتزهات وغيرها، ممّا يحلم بها المترفون، نريد فقط التقليص من الإهانة وحدّاً أدنى من الكرامة..  

أم عبّودة– ربّة منزل، تحدّثت بألم ومرارة واحتجاج: (ما بدنا شي.. بس بدنا نتزقّم متل البشر.. وعدت الحكومة بتوزيع سلة غذائية فيها الرز والبرغل والسكر والزيت والعدس والحمّص.. طيب وينا هاي السلّة؟! من أربع سنين ونحنا ناطرين! يا ترى الدولة عاجزة عن تأمينا؟ لا والله مانها عاجزة)، وأضافت بلهجةٍ يائسة: (يا عمّي، أمرنا لألله، ما بدنا سلّة غذائية، بدنا وقت اللي يوزّعوا للمؤسسة الاستهلاكية رز وسكر، ناخد حصتنا قبل ما يشفطوها جماعة «الدفاع الوطني»).

أبو عمر– بائع بسطة «خمسيني»: يا حرام على هالبلد! صدّقني لو عمري يساعدني على الهجرة لما توقفت لحظة واحدة في هذه البلاد.. اثنان من أولادي سافرا إلى ألمانيا، وأولاد أخي ثلاثة سافروا للسّويد، «يقبّل ظاهر كفّه ويضعها على جبينه»، الحمد الله خفّفوا المصروف عنّا شويّة، مستطرداً: دخلك على شو بدنا نضلّ هون؟ على الذلّ والهمّ والتعتير؟ الله وكيلك ما عم نشبع الأكل.. 

عبد الغني. ك– عتّال: أنا بشتغل بالمرفأ مياوم، يعني فيك تقول بشتغل عشرة أيام تقريباً بالشهر، حسب حاجتن للعتّالة، وباقي الأيام بشتغل بلمّ الخبز اليابس، «مبتسماً بسخرية»، ربّك حميد نوعية الخبز السيئ بالأفران عم تخلّي الناس يقرفوا، وبالتالي حصيلتي من الخبز منيحة.. مستدركاً بغضب وقد تغيرت سحنته: العمى على هالعيشة يا زلمة! ولك شو هاد؟! حتى لقمة الخبز الطيبة محرومين منها! تفووه عليك يا زمن! 

أم محمد – مهجّرة من حلب: بعد الاستيضاح عن أحوالها وسؤالها عن ظروفها، رفعت يديها إلى السماء متوسّلة بحزن: يا ربّ! منتحمّل الفقر والحرمان والجوع والمرمطة.. سعرنا بسعر غالبية الشعب السوري، بس والله ما فيني أصبر على غياب أولادي عني كل هالمدة! وأسبلت يديها بيأس والدمع يترقرق في عينيها، ونظرت صوبي قائلةً بحرقة: من ثلاثة أعوام ما شفتهم؛ واحد راح لتركيا وانقطعت أخباره، والثاني أخديتوا الدولة وما بعرف وين أراضيه، والثالث طفش لوين والله ما بعرف..! يارب! ايمتا بدها تخلص هالأزمة؟ والله تعبنا..

جملة المطالب متواضعة

لعل ما يجمع بين تلك العينات، هي الوطنية المغلفة بالألم، وتلك المطالب البسيطة والمتواضعة، المعبرة عن طيبة ساكني تلك الأحياء، وصدق انتمائهم.

الخبز، دور البلديات، الواقع المعاشي المتردي، المخصصات التموينية، واقع المدارس والاحتياجات السكانية، الوعود المقطوعة من قبل الدولة، دور بعض المتنفذين السلبي، النزوح واللجوء والاختفاء القسري، وطبعاً الحرب، بمجمل نتائجها الكارثية، التي طالت الجميع.

وبعد، هل نكتفي برفع أيدينا باتجاه السماء مبتهلين متضرّعين؟! أم أن تقوم تلك الجهات المسؤولة عن تلك المطالب البسيطة، بعملها بما يمليه عليها الواجب الوطني، بمرحلتنا الراهنة؟، بعيداً عن المحسوبيات والفساد!