حماية المستهلك  في روايتها الاقتصادية الرومانسية..!

حماية المستهلك في روايتها الاقتصادية الرومانسية..!

بين الفينة والأخرى تخرج بعض الأصوات المحلية لتأكد أنها ما زالت على قيد الوطن والحياة، ولطالما غفت في الأزمات الكبيرة، وعند سؤالها عن دورها، تبدأ بالتبريرات بتهميش دورها، وأنها ذات صفة تطوعية، وان الوزارة لا تدعمها بالمال، وأنهم حذروا من كذا وكذا ولم يسمع لهم أحد: وهذه الديباجة الطويلة من الحجج الواهية تنفي في الوقت نفسه دور من لا يسمعه أحد، وضرورة وجوده أيضاً إن كان بهذا العجز.

أتحدث بالضبط عن جمعيات «المجتمع المدني»، وهنا أثارتني التصريحات الأخيرة لرئيس أهم جمعية تهتم بالشأن الحياتي للمواطن وهي جمعية حماية المستهلك التي يرأسها الصناعي عدنان دخاخني صاحب صرخة (قاطعوا اللحم ألأحمر) عندما قاربت أسعاره الـ 2000ليرة قبل الأزمة بسنوات، ولم تلق أي صدى سوى التهكمات، وحينها قال لي أحدهم: ليقاطع دخاخني الشوكولا ونحن سنقاطع اللحم بكل ألوانه، فهذا الرجل يتحدث وكأن المواطن السوري لا تخلو وجبات طعام عائلته من اللحوم التي تزوره بالكاد مرة واحدة في الشهر.


الموز...مثالاً

آخر صيحات الجمعية، بالشراكة مع مديرية الأسعار في وزارة التجارة الداخلية، الطلب من التجار تخفيض نسب الربح قدر الإمكان لمحاولة تخفيف العبء عن المواطن، وقال رئيس الجمعية عدنان دخاخني: (إن بعض الأشخاص لا يقبلون إلا بالربح الفاحش، فأحياناً سعر كيلو الموز في محل 150 ليرة وفي آخر 250 ليرة، وهناك جشع وسرقة من قِبَل بعض أصحاب الكازيات وموزعي الغاز).
هل يعيش هؤلاء في عالم آخر.. والمطالبة الناعمة التي تصل لحدود الرجاء (قدر الإمكان) وكأن التاجر يعاني ويتألم وهو يجمع أمواله من جيوب الناس وحاجاتهم، وتوصيف حال السوق يبدو وكأن (دخاخني) أراد أن يشتري لبيته بعض الكيلوات من الموز فتفاجأ بفظاعة السوق، وكأن المواطن الغارق في تأمين الأساسيات وليس الفاكهة غريب عما يجري ليجترح  له الآخرون أوصافاً عن حال السوق الذي يبتلعه.
المواطن يبحث عن البطاطا التي صارت وجباته كلها (مفركة-مقلية- صينية- مسلوقة) وحتماً لا يمكن أن يفكر هذا المواطن بالوجبة الباهظة وهي البطاطا المحشية لأن اللحم سيدخل في تركيبتها وأيضاً بعض الأنواع الأخرى مثل الفليفلة والبصل وكذلك البهارات التي تحسم النكهة وهي طبعاً أصبحت من فسيفساء الذاكرة السورية.


تبعيض... الحال

يذهب رئيس الجمعية إلى أبعد من الوصف الخجول والرجاء عندما يقلل من فظاعة التجار فيقول: (إن بعض الأشخاص لا يقبلون إلا بالربح الفاحش).. يا سيدي هم ليس (بعض) بل هم (كل) متضامن ومتعاضد على سلبنا، هم - يا من تخاطبهم من موقع رئيس جمعيتنا نحن المستهلِكون، المستهلَكون في كل حياتنا الاقتصادية والنفسية والاجتماعية- استهلكونا وأكلونا قبل الأزمة وأثناءها، ورموا بوجهنا بضائعهم شئنا أم أبينا، وهم من يبيعوننا ما يريدون وبالسعر الذي يريدونه، ويمنعون عنا ما يشاؤون.
مواطن( س): التجار هم أسياد السوق، وانظر إلى أن الموجود فيه هو صنف واحد أي لا وجود للمنافسة، البطاطا من مصدر واحد، والسكر، والرز، وحتى البصل ابحث في كل السوق لن تجد إلا نوعاً واحداً، واليوم وبعد دخول الربيع تجد في الواجهات أنواعاً محددة من العصائر، والبوظة حتى هذه الأنواع محتكرة.
صاحب (محل): نحن نبيع حسب ما يفرضه الموزعون وشركاتهم، وهم يمررون لنا الأصناف حسب استهلاكها، فجأة صنف من القهوة على سبيل المثال نوع (حسيب أزرق) استهلاكه أقل من النوع (الأسود) يوقف الموزع الصنف الرائج لصالح الكاسد، وهكذا حتى فيما يتعلق بالعبوات والأوزان، هم يفعلون ما يشاؤون ونحن نبرر للمواطن، ونزين له الصنف الجديد، وهو لا يصدقنا.


إبداع... تحليلي

السيد دخاخني يذهب إلى الإبداع بتصريحه الصحفي عندما يشير إلى أن (تدنٍّ كبير قد حدث في دخل المواطن، مقارنةً مع الأسعار الحالية، فالقوة الشرائية لليرة السورية انخفضت بنسبة تزيد على 75%، وارتفعت أسعار السلع في الأسواق بنسبة 400 إلى 500%).
وكأننا لسنا هنا، وأبسط مواطنينا قادر على الاستنتاج، وعندما تسأله كيف عرفت يجيبك أبو خالد: يا استاذ راتبي في البلدية 18400 ليرة سورية، كان يكفي لعشرة أيام صار يكفي لسداد 10% من ديون الشهر الماضي، وهكذا كل يوم يصبح فيه الراتب عبئاً وليس خلاصاً، وكيلو اللحم البلدي بـ 2000 ليرة أي 1/9 من الراتب، وصحن البيض بـ 700 ليرة، وكيلو الجبن بـ 600 ليرة، والكعك 400، والخبر السمون 200 ليرة، والأدوية التي كانت شبه مجانية صارت بالمئات والآلاف وغير متوفرة، والأجنبي المهرب عشرة أضعاف المنتج المحلي غير المتوفر.


تحالف فج من باب (التبرير)

كل ما سلف من كلام السيد دخاخني لا يبرر هذه الإفادة التي تعطي مبررات للتجار الذين يحتكرون السوق، يقول في معرض تحليله للسوق: (إن تحديد سعر مادة أو فرضه على التجار مستحيل، والتاجر يبيع بموجب تكلفته ونسبة ربح محدّدة، ومع ارتفاع سعر الدولار لا يمكن الحديث عن ثبات في الأسعار بحجة وجود مخزون لدى التجار، ففي الظروف الحالية وتقلّب الأسعار، لا مخازين كبيرة لدى التجار).
إذا كان سعر الدولار استقر لما يقارب السنة ولم يفلح أحد في وقف الغلاء، وإن كان سعر الصرف قد تذبذب في الشهرين الأخيرين وصولاً إلى ما يقارب 250 ليرة للدولار فكيف يتأثر المنتج المحلي بشكل مضاعف؟ وهذه حال الخضار والفواكه المحلية والألبان والأجبان، وحتى البقدونس والكزبرة؟.. أما المخازين فهي موجودة فلا يمكن أن يرتفع السعر كل يومين بحجة ارتفاع الدولار وأن ما يطرح بالسوق هو منتج اليوم، وعند الحديث مع أي تاجر صغير أو كبير يمسك بيده الآلة الحاسبة ويحسب على اسعار سعر الصرف بنفس اللحظة وعبر تطبيق موبايله الـ (سامسونج).


السر المفضوح

في نهاية التصريح الصحفي يدخل السيد دخاخني في النقد اللاذع للحكومة عندما يقول كمن يفضح سراً: (المؤسسات الحكومية رفعت أسعارها أيضاً، وأدى هذا إلى ارتفاع أسعار بعض المنتجات المحلية، كزيت الزيتون، خمسة أضعاف، ووصل سعر تنكة الزيت إلى 16 ألف ليرة، وحجة الفلاحين ارتفاع تكاليف الإنتاج والنقل وتكلفة المعيشة).
أيضاً هذا الهمس في أذن الحكومة يعرفه القاصي والداني، وأن هناك من قام بشراء محاصيل وبيعها على هواه، وأن صفيحة الزيت التي كانت تباع بالتقسيط على راتب الموظف صارت حلماً بعد أن عاد السوري ليشتري حوائجه بالأوقية.