أطفال سورية... التسرب المدرسي.. «التشرد» والعمالة القسرية
تنكسر أشعة الشمس على جبهاتهم الفتية, ويبتعد الحلم عن لياليهم. جيل أضافت سنوات الحرب الثلاث عشرات السنوات لأعمارهم فتحولوا من أطفال يلعبون كرة القدم والحجلة إلى أرباب أسر، يقع على كاهلهم مسؤوليات جسام. وتحاول جميع الأطراف المتنازعة في سورية استغلال هذه الظاهرة لكن لمصلحتها، حيث يوجه الجميع من جهات داخلية وخارجية وإقليمية ودولية بضرورة تحييد أطفال سورية من الصراع الدائر, لتبقى هذه النداءات في دائرة رفع العتب، فالأمر الواقع على الأرض يعكس مدى هشاشة هذه النداءات.
الذي سنتناوله اليوم قد يندرج تحت مسميات عديدة، منها «التسرب المدرسي» و«عمالة الأطفال» و«التشرد» و«التسول». لكن الوجه الآخر لهذه الحالات هو تحول هؤلاء الأطفال إلى كبار وتبادل الأدوار مع ذويهم.
العائلة على محك الأزمة
تتجول «جميلة» مع أخيها «خالد» في سوق الخضرة، ويمسك «خالد»، وهو الذي لم يتم عشر السنوات من عمره، بيد شقيقته التي تصغره بثلاث سنوات. يبيع الطفلان البسكويت للمارة بينما يجلس والدهما على المقَعد في الطرف الثاني من السوق.
يتحدث والد «خالد» لـ«قاسيون» عن معاناته وما تعرضت لها عائلته خلال سنوات الأزمة في البلاد قائلاً «كنت أعمل فيما سبق سائق سيارة تكسي، وكانت أوضاعي المادية مستورة ولكني تعرضت لحادث أثناء الأزمة وفقدت قدميّ وبت مقَعداً، وهجرت من منزلي, واليوم أبيع السجائر فيما يبيع ابني الصغير البسكويت والعلكة للأطفال».
ويقول «خالد»، الأبن، «أنا أخرج كل يوم لأبيع البسكويت والعلكة وأحياناً الدخان بدلاً من والدي، لأننا بحاجة إلى النقود كي نشتري الطعام وندفع أجرة الغرفة التي نسكن فيها».
النزوح والإقامة في الحدائق!
ويتابع «خالد» حديثه «والدي لم يخرج للعمل إلا منذ أسبوعين فقط، لذلك كنت أبيع أنا بدلاً عنه فهو كان مريضاً جداً، ولم نكن نملك المال للطعام أو حتى أجار غرفة واحدة، فقد عشنا في حديقة ثم مركز إيواء ثم عملت مع والدي وأختي الصغيرة، واستأجرنا غرفة لنا», وأضاف خالد «أحياناً أجني مبلغ 400 ليرة وأحياناً أكثر في اليوم الواحد، وفي أيام البرد والمطر لا أبيع شيئاً».
وعن دراسته يقول «أنا دخلت إلى المدرسة في الصف الأول ثم نزحنا من منزلنا وتنقلت من مكان إلى آخر، وبعد إصابة والدي لم أعد إلى المدرسة, لكن بس أكبر رح أرجع مرة ثانية إلى المدرسة مشان أتعلم لأن آنستي كانت تقول لي أن خطي حلو».
واقع الحال وشبح الجوع
يخرج «صلاح» من مكان سكنه باكراً مصطحباً معه عربة حديدية ويجلس أمام مدخل سوق «مدحت باشا»، يفتش عن زبون يريد نقل بضائعه من وإلى السوق.
وعن ذلك يقول «صلاح»، ابن ثماني السنوات، «فقدت والدي، وأعيش مع والدتي وأربعة إخوة وجدتي, فأنا أعمل في نقل البضائع والأغراض فيما يعمل شقيقي الذي يكبرني لدى ميكانيكي سيارات»، ويتابع حديثه «ما أجنيه أنا وأخي يكفينا ثمناً للطعام ودفع أجرة المنزل، فنحن هجرنا من منزلنا وقتل والدي، ولم نحصل على أي مساعدة سوى بعض أكياس الطعام القليلة التي لا تسد حاجتنا».
وعن تعليمه يقول صلاح «أنا لم أدخل المدرسة سوى أشهر قليلة، ولا أعرف الكتابة أو القراءة. وتقول والدتي إذا عدت إلى المدرسة وتركت العمل أنا وأخي فإننا سنموت من الجوع، وأصحاب المنزل سيطردوننا من المنزل, لذلك سأظل أعمل إلى أن تتحسن أحوالنا وربما عندها أعود للتعلم».
أحلم بالمدرسة والدمية..
تبيع «سارة» وشقيقتها الورد الجوري في شوارع العاصمة دمشق, من المفترض أن تكون سارة في الصف السادس الابتدائي، لكنها نزحت مع أهلها من حمص ولم تعد تتابع دراستها, تجيد سارة القراءة والكتابة، وتحاول أن تقرأ كل لافتة تصادفها كي لا تنسى القراءة.
تقول سارة «فقدت والدي في الأزمة ولا نملك راتباً أو أي شيء يعوضنا، لذلك أعمل مع والدتي وأخوتي كي نؤمن ثمن الطعام وأجرة المنزل», وتضيف «عملنا في تجهيز الخضروات والخياطة وتنظيف المنازل وكل شيء».
وتتابع سارة «أتمنى أن أشتري دمية لكني لا أملك نقوداً لذلك, فالنقود فقط للطعام وأجرة المنزل لذا أقف مطولاً أمام المحل أتأمل جميع الألعاب فيه، وفي كل مرة يطردني صاحب المحل لأنه يخشى أن أسرق اللعبة لكني لا أحب السرقة»، تقول سارة إنها تحب المدرسة وإنها ترغب بالعودة للتعلم واللعب مع أصدقائها في الحارة القديمة.
المخاطر والمضايقات والتعنيف
يقول الاستاذ شادي العمر لـ«قاسيون»، مدرب الدعم النفسي الاجتماعي ومهارات الحياة، «بالنسبة للأثر النفسي على الطفل المعيل، فأن الجميع يتفق على منع الأطفال تحت سن الخامسة عشرة من العمل، ويذهب الأغلبية إلى تمديد هذا العمر حتى الثامنة عشرة. حيث إن عمل الأطفال في سن العاشرة أو حتى الخامسة عشرة ينعكس سلباً على تنشئتهم النفسية والجسدية»، ويضيف «من الناحية النفسية يتعرض الأطفال في بيئة العمل إلى الكثير من المخاطر والمضايقات والتعنيف والاستغلال الجسدي والجنسي، ولو بأشكال يمكن اعتبارها أحياناً غير مؤذية جسدياً، لكنها شديدة الخطورة من الناحية النفسية عندما تؤدي إلى فقدان الأطفال للثقة بذواتهم، وعجزهم عن التكيّف النفسي وضعف صحتهم النفسية».
ويتابع شادي «إنه من ناحية ثانية بذات الخطورة.. يؤدي عمل الأطفال إلى إعاقة نموهم الجسدي الطبيعي، خاصة عندما يصلون لدرجة الإرهاق، وهذا يؤثر بالتالي على صحتهم العقلية والجسدية، فالعمل يختلف عن اللعب، والطفل الذي يعمل لا يستطيع التوقف عن العمل حين يتعب، على العكس من اللعب». ويتابع «من الناحية القيمية والتربوية، إن تعامل الأطفال مع الأجر والمقابل المادي لما يبذلونه من جهد يؤدي إلى خلخلة التربية القيمية المتدرجة لدى الطفل، فالطفل الطبيعي ينشأ عادة على قبول الحوافز المعنوية والرمزية كمقابل لما يؤديه، وهذا ما يرسخ عنده قيم التعاون والإيثار والمشاركة أو ما يعرف بقيم الأسرة، أما الحوافز المادية التي يحصل عليها متأخراً فهي ترسخ التملك والأنانية والمنافسة الربحية- قيم السوق».
تفادي مشكلات عمالة الأطفال
وعن الحلول الممكنة لمعالجة المشاكل التي قد يتعرض لها الاطفال، يقول مدرب الدعم النفسي الاجتماعي «يمكن اقتراح حلول ببساطة لتفادي مشكلات عمالة الأطفال، لكن من المقترحات الضرورية للتفكير في الحلول ينبغي العمل أولاً وبشكل شمولي تكاملي ضمن برامج موسعة، تشمل الجوانب النفسية والاجتماعية وإشباع الاحتياجات المادية الرئيسية (مسكن - غذاء - طبابة - تعليم).
من الضروري أيضاً توسيع نطاق المشاركة في الحلول ليشمل المنظمات والهيئات الحكومية والمجتمعية والدولية أيضاً. ومع أن الآثار السلبية لعمالة الأطفال تخص مجتمعاً بعينه أو دولة محددة، إلا أن المسؤولية تجاه الطفولة هي من المسؤوليات الأخلاقية الإنسانية العامة، والتي أصبح البشر مسؤولين عنها في أي مكان، باعتبارها قضايا إنسانية فوق إقليمية أو جهوية أو دينية أو جنسية.