المهاجرون السوريون.. أزمات نفسية و«تفكك أسري»
حسب العديد من التقارير، فقد تسببت الأزمة السورية بترك حوالي 3 ملايين سوري بلادهم، منهم تسعمائة وسبعة وخمسون ألف لاجئ في لبنان، فيما يقدر عدد اللاجئين في الأردن إلى نحو خمسمائة وأربعة وثمانين ألفاً، وفي تركيا ستمائة وأربعة وثلاثين ألفاً، فيما يتواجد مئتان وستة وعشرون ألف لاجئ في العراق، ومئة وأربعة وثلاثون ألف لاجئ في مصر، فيما أفادت التقارير عن نزوح ستة ملايين ونصف المليون مواطن داخل سورية.
على الرغم من حالة الأمان التي توفرت لهم، يصطدم المهجرون السوريون في بلدان المهجر، وبالأخص الأوربية منها بمنظومة قيم وعادات سائدة أحياناً تناقض كل ما تربوا عليه في بلدهم بغض النظر إن كان ما تعودوا عليه في بلادهم تبدو متخلفة ورجعية في بعض جوانبها.
العائلة و«التمرد» والتفكك
تغيّرت ظروف الحياة على «محمود. ن» ذي الـ20 عاماً، فقد «تمرد على الحياة وعائلته» وهو بعمر صغير، فبعد أن ترك سورية وغادر للعمل في إيران، ذاق معنى «فقدان الحنان والجو الاسري الحميمي»، وبدأ يمارس حياته بشكل يخالف ما تربى عليه من أبويه، بحسب أخيه الوحيد الذي بقي في دمشق من العائلة.
ويقول «وسام. ن»، وهو الأخ الأكبر لمحمود، «إن عائلته هاجرت إلى السويد منذ حوالي العام، وقد أنتج ذلك تفككاً أسرياً لا يمكن التحكم به»، وكان أخطر أشكاله تمرد أخيه الصغير وعدم مثوله لأوامر والديه البعيدين عنه، وخاصة عند حصر التواصل بينهم عبر الانترنت.
ويتابع وسام قائلاً «محمود شعر بأنه مستقل ورجل رغم سنه الصغير، فهو حالياً يعمل وينفق على نفسه دون والديه، وهذا ساعد أيضاً على تجاهله أوامر والديه» بحسب وسام الذي تابع إن «أسرتنا حالياً متفككة كل في بلد، ورغم وجود أحد إخوتي الصغار بعمر الـ6 سنوات مع والديه في السويد ».
قيم وتقاليد أخرى.. وازدواجية!
عادات وتقاليد وقوانين دول المهجرأدت إلى فتح فجوة «كبيرة» بين أفراد العائلة الواحدة. ويقول «صلاح. ع»، المتواجد في الدانمارك والذي تواصلت معه «قاسيون» عبر «فيسبوك»، إن «المجتمع السوري الذي كنا نعيش فيه، يعتبر جزءاً من المجتمعات الشرقية، والتي رسمت نمطاً معيناً من طبيعة العلاقة بين المرأة والرجل، لكن في المهجر أخذت الأمور منحى آخر».
وتابع «ما هو سائد في دول المهجر، وهذا ما دفع زوجتي لتغيير طريقة تعاملها تجاهي، على أنها لم تعد بحاجة للتصرف كما كنا في بلدنا، كون هذه الدولة تعطيها حريات لم تكن موجودة في العائلة سابقاً، وخاصة عندما استقلت مادياً» مشيراً إلى أن «هذا المناخ خلق فجوة بيني وبينها لم تكن موجودة».
رب الأسرة كان أكثر أطراف العائلة خسارةً في المهجر، وخاصة إن كان برفقة عائلته، فالرجل هناك يعيش صراعاً بين العادات والتقاليد الشرقية وبين ضرورة الإنخراط مع عادات وتقاليد وقوانين الدول الغربية، ما يجبرهم على التصرف بأسلوب شبه مزدوج.
وبحسب «معاذ. ع» في السويد، فإن «الرجل قد يصل إلى حالة مرضية في هذه الدول، وخاصة أن الدولة تقوم بتلبية طلبات أطفالك مثلاً، وبعض هذه المطالب لم أكن قادراً على تأمينها في بلدي، ما دفع أطفالي للتعلق بالسلطات هناك أكثر مني، وقد لا يمتثلون لأوامري، وهنا قد يشعر الرجل بالفشل، ويعيش حالة شبيهة بالمرض النفسي».
لوعلم معاذ أن بلد المهجر الذي ترك وطنه وخاض في سبيله مغامرات محفوفة بخطر الموت في البحار، ستكون سبباً «بتفكك أسرته وضياع شخصيته وهيبته ضمن العائلة، لفضل الموت في سورية على ذلك» بحسب ما قاله.
الحلقة «المفقودة»
الأسر التي هاجرت غرباً، عاشت التفكك الأسري بأشكال مختلفة، وكان محور ذلك صراع العادات والتقاليد، وشكل القوانين وطريقة تنفيذها، لكن هذا لا يعني أن الهجرة للدول العربية كانت بعيدة بتأثيرها عن الأسرة، وبحسب «محمد. س»، وهو شاب بعمر الـ30، ترك سورية ذاهباً إلى مصر قاصداً العمل والحصول على ظروف معيشية أفضل. فقد كان لسفره أثر «مؤلم لن يلتئم»، وقال إن «ابتعادي عن عائلتي مدة عامين، جعلني أفقد جزءاً مهماً من الترابط الأسري، فالتواصل مع عائلتي أصبح صعباً جداً، وخاصة مع اقتصاره عبر برامج الانترنت، ما يشعرني دائماً بفقدان حلقة مهمة بعلاقتي مع أسرتي، لم أستطع تشخصيها بدقة».
وتابع «انقطاع الكهرباء لفترات طويلة في سورية، يعيق تواصلنا يومياً، وبحكم انشغالي بالعمل، قد لا أتواصل مع أهلي لأسابيع، إن لم يصدف توقيت مجيء التيار الكهربائي مع فترة فراغي».
وأردف «لدي أخ آخر عمره 25 عاماً، موجود في العراق، وقد انقطعت أخباره منذ حوالي 6 أشهر، وبذلك أصبح هناك جدار عازل بين أفراد أسرتنا بعد أن كنا في منزل واحد نلتقي يومياً».
العلاقات المادية طغت...
«أبو سليمان. ر» أب لـ4 شبان، أكبرهم غادر ليقيم في دبي بالإمارات العربية بداية الأحداث السورية. هذا الشاب تزوج من فتاة أميركية الأصل، وكانت هذه الواقعة بالنسبة لوالديه ضربة قاسية، يشعرون بها يومياً وخاصة أنهم وبحسب أبو سليمان «لم يستطيعوا إقامة عرس له كأقل تقدير، عدا عن عدم القدرة على التفاهم مع زوجته بحكم اللغة، وعدم رؤيتها شخصياً حتى اليوم».
وأضاف «زوجة ابني التي من المفترض أن تصبح جزءاً من العائلة، حتى اليوم أشعر بأنها زادت من غربة ابني، فالعادات والتقاليد مختلفة، حتى تفكير ولدي وتصرفاته اختلفت عن السابق، وما زاد المشكلة هو قلة التواصل معهم كما السابق».
ويتابع أبو سليمان «علاقتي مع ابني حالياً محصورة بالمادة بدلاً من العلاقة الحميمية التي تجمع أي أب وابن، فكل ما يلتزم به عماد اتجاهي هو المبلغ المالي الذي يرسله لي شهرياً، وربما يعيق هذا الراتب الشهري إن صح التعبير، قدرتي على فرض آرائي أو توجيهاتي، فأنا بالنهاية لا أعلم كل ما يقوم به في المغترب، ولست قادراً على متابعة تصرفاته يومياً كما لو كان في سورية».
غربة في الوطن
القصص اختلفت من تجربة إلى تجربة، لكن النتائج شبه واحدة بالنسبة للترابط الأسري. «باسم. د» شاب فلسطيني متزوج وله طفل واحد عمره 3 أعوام، فقد عمله بداية الأزمة الحالية، واضطر للسفر وحيداً منذ عام إلى مصر للعمل، لكن السلطات المصرية رفضت دخوله، وأجبر على العودة إلى لبنان، وهناك بدأ بالعمل مع صديق له كان هناك قبله.
يقول «باسم» وقد عاد إلى سورية بعد عامين من السفر، إنه لمس فرقاً واضحاً لدى أسرته في عام واحد، وكأنهم اعتادوا على عدم وجوده، وطفله الصغير قد نسي ملامحه، وقد بدأ بالتعلق بأمه والمثول لأوامرها أكثر منه.
«باسم» حالياً يعيش حالة غريبة تشبه الغربة تماماً، «بل هي مؤلمة أكثر» على حد تعبيره، وهي الشعور بانحلال أسرته من حوله، إضافة إلى أن «مجموعة الأصدقاء التي اعتاد أن يقضي أوقات فراغه معها، انحلت تماماً، فمنهم من هاجر ومنهم من استشهد ومنهم من يعمل ليلاً نهاراً كي يؤمن قوت يومه» على حد قوله.
الآثار النفسية والاجتماعية «أخطر»
يميل البعض إلى أن الآثار الاجتماعية والنفسية للأزمة أخطر من الآثار المادية، حيث ساهمت في تفكك النسيج الاجتماعي، ومنظومة القيم السائدة، بغض النظر عن الموقف تجاهها، وستترك تأثيرها على الأجيال اللاحقة، حيث تركت الأزمة جروحاً وندباً من الصعب التئامها، وربما تكون أصعب المهام اللاحقة أمام السوريين.