طقوس الإشارات القاتلة
لا أريد لهذا الحلم أن ينتهي على مفترق المجهول، ولا أحب وطناً دون تنوع، أو بلداً بجغرافيا واحدة، لا أحب السهول اللانهائية، ولا الجبال التي تسد الأفق وحيدة، ولا الأشجار التي تصنع غابتها الساكنة، وحتى الغيم الواطئ يخنقني، والرعد البعيد لا يذكرني بالخير.. أحب الأشياء التي تتوالد، والأقدام التي تهبط وتصعد وفق رغبة القلب.. لا أحب الحدود وجوازات السفر.. أعشق هويتي باتساعها.
حتى اللحظة لم أفقد ثقتي بجاري، ولا بالفرن الآلي الذي لم ينفد منه خبز المساء، ولا بالسير مترنحاً في الطريق إلى بيتي بعد الفجر، ولا أخشى على دواء السكري والضغط لوالدتي الصامدة، ولم أخزّن حتى اللحظة مونة الإشارات التي تنبئ بالخوف، ولا تعتريني الشكوك بأن القادم طريق مسدودة للمتقاتلين على المأوى، والهاربين من الطلقات الطائشة.
لا أريد لهذا الحلم أن ينتهي، ولا أريد أن أصدق لعبة السيناريوهات المكررة، ويتملكني اليقين أن الحكمة ممكنة، وأن الرياح التي تحمل رائحة الموت تخف تخف، وأن الله سيفك ألسنة الأولياء الصالحين في المدينة المنذورة للسلام.
لا أصدق النبوءات، ولا التاريخ الذي ترويه العرّافات، وكتّاب النهايات، ولا أريد أن آخذ على محمل الجد رؤى المحللين السياسيين، وتوقعات أهل الفن والتنجيم، والخبراء الاستراتيجيين الذين يضعون المدن بتاريخها على خارطة الطائرات الثقيلة.
في هذه اللحظات الفاصلة من عمرنا، على هذه الخريطة الجميلة، لن أوافق على لغة الفرقاء الحانقة، ولن أعترف ببدهيات الطرق الموصدة، ولا بالإثنيات المتباعدة والمختلفة على الله من منها أحق بوحدانيته وتجليه، ولا على مقدسات المتناحرين على إثبات من هو الرجل النقي في تاريخها الضيق، ولا على من استل سكينه وسيفه ورمحه في أوابدها.. فقط هنا أحلم اللحظة بحلمي الذي لا ينتهي.
في هذه اللحظة المحاصرة بطقوس الإشارات التي توحد المشهد العام، ثمة من يحاول ركوب سفينة النجاة بلا رأي، أو بنصف رأي، وثمة من يرى الوطن من بوابته الشخصية، وحلمه الغبي، وهناك من يريد أن يسرق مشاويرنا الآمنة، ودفاتر أبنائنا الملونة بالفلوماستر، والألوان المائية، وبكرة (سبايدرمان) أو الرجل الوطواط، هناك من يريد إفراغ لغة ابني الصغير الكرتونية من إنسانيتها، ويستبيح أماننا اللذيذ.
في هذه اللحظة بالضبط، يجب أن تخرج الكلمات كما هي من أصحابها، وموصولة بشريان الحقيقة فقط، لا وقت لكلمات تؤول، ولا لخطوة واقفة أو راجعة، لا خيارات للمهاترات على الهواء المباشر أو المسجل، ولا لبيانات الشجب والتأييد، والتحريض والتجييش.. يجب أن يكون القرار على قدر البقاء.
فاتنا ربيع الغوطة، لا نكهة لـ(عوجتها) هذا الموسم، لا شهوة للجارنك الذي (يمزُّ) الفم، لا إثارة في أسرّتنا، ولا فيء لأرواحنا سوى الخلاص، وخلسة مرت أعياد شهور الخصب، ومر المساء غبياً دون مؤشرات قيظ وبرد، وأما الصغيرات الحالمات فنمن على أذرع الهلع دون هوس اللذة السرية، وصغار الذكور يباركون حب آباء ربما لا يعودون إلى البيت محملين بالشوكولا والموز.
الآن.. أفقنا على يأسنا الذي ورثناه من اجتهادات مدرسة السوق المفتوحة، والخصخصة التي ستنقذ رتابة وقتنا، والبطالة التي تتكاثر في الشوارع أجيالاً من كل المقاييس، وكل القرارات التي أوصلتنا إلى لحظتنا هذه.. الآن نجمع الحطب والطحين والمؤونة لمجهول لا نريده، نعد الأيام التي تسبق هلعنا من الآتي، نقبض على قلوبنا كي لا تفتك بعظم الصدر، ونهمس في روحنا، ونمس بأبوية لم نعهدها شعر صغارنا، ونحدق في وجوههم الغارقة في البراءة.. الآن بكل ما أوتيت من قوة أصيح: لا أريد لهذا الحلم أن ينتهي.