تزايد تهريب المازوت.. الآن! لماذا؟ المواطن يدفع ثـمن تغاضي المسؤولين وفشلهم في منع التهريب
انتشرت خلال العقود الأخيرة ثقافة الفساد والانتهازية التي ولدت ونمت في كل مفاصل الدولة في ظل حماية المنصب أو المسؤولية، وأصبحنا نرى الكثير من الانتهازيين والمنتفعين من الأزمات وأثريائها وراكبي الأمواج الذين يتاجرون بالحاجات الأساسية الملحة للمواطن السوري، لتحقيق أسرع وأكبر الأرباح إرضاء لطمعهم وجشعهم تحت الظروف الاستثنائية، حتى لو كان ذلك على حساب أمن الوطن والمواطن، وعلى حساب الناتج الاقتصادي الوطني، وهناك من يساعد هؤلاء الفاسدين المتاجرين بخيرات الوطن، ويغطي عليهم ويشاركهم أرباحهم، ضارباً عرض الحائط بالمصلحة الوطنية العليا.
المواطن السوري يدفع الثمن
يعد المازوت الحامل الأساسي لانخفاض أو ارتفاع تكاليف المعيشة على المواطن، إذ يؤدي أي ارتفاع في سعر هذه المادة إلى توليد موجة ارتفاع بالأسعار تشمل كل نواحي الحياة المعيشية اليومية، وهذا ما دفع ثمنه المواطن السوري عند رفع الدعم عن المازوت في أيار عام 2008، ومازال يدفع ثمنه حتى اليوم، فقد ارتفع سعر المازوت من 7 ليرات سورية إلى 20 ليرة سورية لليتر الواحد أي بمعدل حوالي 300%، بحجة ضبط حركة تهريب المازوت، وعدم السماح بإخراجه عبر الحدود إلى الدول المجاورة. إلا أن حركة التهريب قد زادت ونشطت في الأسابيع الأخيرة، وتشير إحصائيات شركة توزيع المحروقات والمشتقات النفطية (سادكوب) إلى أن استهلاك مادة المازوت سجل أرقاماً عالية، رغم انعدام الحاجة إلى مازوت التدفئة وتوجُّه المناخ نحو الدفء، ووصلت كمية المازوت المستهلكة خلال شهر واحد إلى ما يقارب مليار متر مكعب، وهذه الزيادة في الاستهلاك اضطرت الشركة إلى سحب ما يقارب 80 ألف متر مكعب من المخزون نتيجة عدم كفاية الإنتاج المحلي، فأين تذهب هذه الزيادة في الاستهلاك؟ وما هي المحطات والمناطق التي تستجرها؟! وهل هي فعلاً لخدمة المواطن السوري؟!
سمعنا كثيراً عن الازدياد الملحوظ في حركة تهريب المازوت إلى الدول المجاورة، فقامت «قاسيون» باستطلاع لمنطقة قرى جبال القلمون وبعض المناطق السورية على سلسلة جبال لبنان الشرقية، حيث باتت قوافل الدراجات النارية المحملة بغالونات المازوت، والسيارات ذات الصهاريج والخزانات، منظراً مألوفاً لدى أبناء القرى الممتدة على هذه المنطقة، رغم أن العديد من أهالي القرى التي يشملها خط سير المهربين أبدوا قلقهم وتخوفهم من هذه الظاهرة التي تؤثر على حياتهم اليومية وعلى الاقتصاد الوطني بشكل عام، وقد أظهرت التقديرات الأولية مدى الضرر الذي تلحقه عملية التهريب بالاقتصاد الوطني، حيث تبين أن الفارق السعري بين الكمية المطروحة والقيمة المحصَّلة خلال أربعة أسابيع قد بلغ 5 مليارات ليرة سورية، أي 1.25 مليار ليرة سورية في الأسبوع الواحد، وفي السنة تبلغ القيمة المنهوبة على حساب الاقتصاد الوطني 65 مليار ل.س.
ولا تقتصر عملية التهريب على الدراجات النارية والسيارات المحملة بالخزانات والصهاريج المحدودة، ولا حتى على الصهاريج الكبيرة التي تقوم شركة المحروقات (سادكوب) بإمداد المحطات بالمازوت بواسطتها، بل تعتمد أساساً على إنشاء خطوط نفط غير شرعية، بأنابيب يتم إخفاؤها تحت الأرض، وتمتد إلى كيلومترات كثيرة، يتم ضخ المازوت عبرها من خزانات مدفونة تحت الأرض إلى المنطقة التي يباع فيها المازوت على الطرف الآخر من الحدود.
جولة في متاهات المهربين
رغم توقع المخاطرة، قامت «قاسيون» بزيارة إلى منطقة النبك ودير عطية والقرى المجاورة، لمراقبة عمليات التهريب والوقوف على حقيقة الطرق والأساليب المتبعة فيها. وقد استغرقتنا رحلة البحث ساعات طويلة، في منطقة جبلية وعرة تخترقها بعض المسيلات المائية الجافة، والطرق الترابية وقطعان الأغنام تنتشر في أرجائها. وقد رافقنا بعض الأهالي على أحد الطرق التي تستعملها السيارات المحملة بالمازوت، بدءاً من قرية الحفر باتجاه الغرب لمسافة حوالي عشرة كيلومترات، عبر إحدى الطرق الضيقة، ثم تنحدر باتجاه الشمال الغربي لعدة كيلومترات عبر مسلك ترابي تظهر فيه آثار عجلات السيارات والصهاريج والآليات التي تنقل المازوت المهرب إلى مواقع داخل الحدود السورية، لتقوم فيما بعد بتهريبه إلى لبنان عبر سلسلة جبال القلمون. وقد أخبرنا أحد المواطنين المرافقين لنا في جولتنا أنه تم ضبط خزانات كبيرة تحت الأرض تبلغ سعتها بين 25 ـ 35 م3، وأحدها بسعة 50م3 وهي مموهة بشكل متقن لدرجة أنك لا تستطيع ملاحظتها نهائياً لولا وجود بعض الآثار والبقع البسيطة للمازوت الممتزج بالتراب.
- التقينا أحد المواطنين في المنطقة فقال: «عمليات تهريب المازوت ليست جديدة، بل هي تجري منذ عشرات السنين، ولكنها ازدادت وتفاقمت كثيراً في الأسابيع الأخيرة، وفي قرى المشرفة الحدودية وجريجير وقارة الحدود مفتوحة تماماً، وحركة صهاريج المازوت لا تنقطع، والصهاريج تذهب مباشرة إلى منطقة (عرسال) اللبنانية، حيث يباع اللتر بـ30 ل.س، ويحرمون المواطن من مخصصات المحطات من المازوت، ومنطقتنا باردة جداً ونحتاج المازوت بشدة تفوق حاجة الكثير من المناطق السورية، ولكننا لا نستطيع الحصول عليه لأن المحطات تبيعه للمهربين، ويذهب الكثير من المواطنين إلى مخافر الشرطة ومديري النواحي، ويشتكون فقدان المازوت، ويطالبونهم بمحاربة التهريب، فيقولون لهم: «ماذا نستطيع أن نفعل؟ لا حيلة لنا في ذلك!» ومن المؤكد أن هناك مافيات كبيرة ومحمية وراء تهريب المازوت، ولا أحد يستطيع مواجهتها، والحقيقة أن الجمارك وحرس الحدود لا يعترضون قوافل سيارات المازوت أو الصهاريج التي ترافقها السيارات ذات الدفع الرباعي والزجاج (المفيَّم)، بل ويساعدونهم أحياناً بفتح الطريق لهم، ومن المؤكد أنّ لهم حصتهم من ذلك ويقبضون ثمن تعاملهم معهم وتسهيلهم عملية التهريب».
- حدثنا أحد المواطنين قائلاً إنّ المنطقة الممتدة من جنوب جسر القصير إلى جنوب رأس المعرة والتي تصل إلى أكثر من 70 كم يوجد فيها حوالي 33 فتحة أو ثغرة تتم عبرها محاولات التهريب، أي أن هناك ثغرة كل حوالي 2 كم وهذه الثغرات معروفة وواضحة للجمارك وغيرها، وهناك شعاب غير سالكة يتم عبورها بواسطة الحيوانات (البغال أو الحمير) أو باستخدام خراطيم البلاستيك التي يُضَخ المازوت عبرها من الخزانات الأرضية التي تدفن على عمق حوالي 1 متر من سطح الأرض وقد تم ضبط واستخراج أحدها، ويبلغ طوله حوالي 14 متراً وعرضه عدة أمتار على شكل مستطيل فتحاته الرئيسية مموهة بإحكام.
أرباح وأرقام
تستغلّ هذه المنطقة من جانب مهربي المازوت، سواءً من سورية أو إليها، فقد أخبرنا أحد المواطنين أن المهربين استغلوا فارق الأسعار حين رفعت الدولة سعر صفيحة المازوت 20 لتراً من 140 ل.س إلى 400 ل.س، تغير اتجاه التهريب لفترة، وأصبح المازوت يُهرَّب من لبنان إلى سورية، ثم عادت حركة التهريب إلى لبنان بعد ارتفاع سعر صفيحة المازوت في لبنان إلى 21000 ليرة لبنانية أي حوالي 650 ل.س، بينما تباع صفيحة المازوت السوري في السوق اللبنانية بـ20000 ليرة لبنانية، أي بـ600 ل.س، يضاف إليها كلفة التهريب حوالي 2000 ليرة لبنانية (ليصل سعرها إلى حوالي 22000 ليرة لبنانية أي 660 ل.س). والأرباح يتقاسمها المهربون فيما بينهم مع من يسهل لهم عملية العبور أو يغض الطرف عنها، وحسب دور كل من المهربين في تأمين الكميات التي يتم تهريبها من الداخل السوري وصولاً إلى لبنان.
شكاوى أهالي القلمون وتساؤلاتهم المشروعة
- قال أحد المواطنين المرافقين لنا في جولتنا: «إذا كانت الحكومة قد بررت رفع سعر المازوت قبل أكثر من عامين ونصف، وإلغاء كافة طرق الدعم بحجة الخسائر التي تتكبدها الدولة بتهريب المازوت إلى الدول المجاورة، ألَيس من المفترض أن تبادر الحكومة وتتخذ الخطوات العملية لمحاربة ووقف عمليات التهريب؟! ولكنها لم تفعل، بل في بعض الأحيان يشارك المسؤولون في تشجيع هذه الظاهرة والاستفادة من أرباحها، فساداً وضرراً كبيراً للاقتصاد الوطني والناتج المحلي والحياة المعيشية اليومية للمواطن بشكل عام».
- وتساءل مواطن آخر باتهام مبطن: «ما المبرر لوجود هذا العدد الكبير من محطات الوقود في منطقتي قارة ودير عطية، مثل محطات الضياء، الأمراء، الشرق، قدور، ماهر زكريا، مالين، أبو ناصر، حامد، المش عراجو، وغيرها من المحطات، مع أن معظمها إن لم يكن جميعها مغلق؟! وهل يتم حساب مخصصات لها من شركة سادكوب؟! ولماذا لا يتم التدقيق في سجلات وقيود توزيع صهاريج المازوت من سادكوب إلى المحطات المرخصة؟! وهل يتم فعلاً وصول المازوت لهذه المحطات؟! وهل يتم فعلاً بيعه للمواطن حسب الحاجة أم للآخرين الذين يدفعون سعراً أعلى؟ على جميع الجهات المعنية أن تأخذ دورها بكل جدية، مثل سادكوب والبلديات وحتى مخاتير القرى، لمحاربة ووقف عمليات تهريب المازوت السوري إلى الدول المجاورة، ويجب إزالة كل الفتحات والمعابر التي أحدثها المهربون، وخاصة في جسم الأوتوستراد الدولي بين دمشق وحمص، والذي يؤمن لهم عبوراً سهلاً من وإلى مواقع التهريب، فمعظمها معروف لدى أصحاب الأمر، ومن السهل جداً محاربة التهريب وقمعه نهائياً لمن أراد ذلك بنيّة صادقة، ولكنّ المسؤولين عن هذا الأمر لا يريدون ذلك».
وقد أكد الأهالي أن هناك مخصصات لمحطات عديدة تذهب إلى غير مكانها، والمشكلة الأساسية هي عملية وطريقة توزيع المازوت على المحطات، دون دراسة للحاجة أو للاستهلاك المفترض لكل منطقة.
يجب وقف تدمير الاقتصاد الوطني
إن محاربة الفساد الأكبر هي واجب وطني بامتياز، والقضاء على العصابات التي تخرب اقتصاد الوطن مهمة كل شريف في هذا الوطن، وإن مسؤولية محاربة التهريب وقمعه تقع على عاتق الجميع، وخاصة شركة سادكوب التي من واجبها إجراء دراسة عن احتياجات كل منطقة ومحطة، والتأكد من وصول المازوت إلى المحطة، وأن يكون لها جهاز رقابي يتحمل المسؤولية للتحقق من وصولها، لأن أغلب عمليات التهريب وشراء المازوت لا يتم من المحطات، بل من الصهاريج المخولة بنقل المادة إلى المحطة، والتي لا تصل إلى مبتغاها أبداً. لذلك يجب فتح سجلات للمحطات والصهاريج لضبط عمليات التوزيع بشكل دقيق. ويجب على الجميع العمل الجاد والمستمر لبتر هذه الظاهرة الخطيرة، فهذه أيضاً مسؤولية وطنية بامتياز، ويجب على كل الجهات المعنية السعي الجاد لاقتلاع الخزانات المزروعة في الأراضي الصحراوية والحدودية بقصد التهريب، وتعقب مسار الخراطيم واقتلاعها، ومحاسبة المهربين والفاسدين الذين يقفون خلفهم ويسهلون لهم هذه العملية ويشاركونهم الأرباح غير المشروعة، والتشدد أكثر في عمليات قمع التهريب والمساءلة أمام الجميع، لتحديد المسؤوليات وخاصة حرس الحدود ودوريات الجمارك التي يجب أن تلعب دوراً أساسياً في العملية الرقابية.