تركيبة الإنفاق في سورية تحدد آلية الرفع الحقيقي للأجور
قدرت إحصاءات عام 2009 حول متوسط إنفاق الأسرة السورية الشهري على المواد الغذائية وغير الغذائية مقدار: 30000 ليرة للأسرة المكونة من خمسة أشخاص. (متوسط تعداد الأسرة في سورية).
وبأخذ سلة الاستهلاك في عام 2005 التي تحوي بنود الاستهلاك الرئيسية معبر عنها بنقاط ونسب تدل على حصة هذه السلع والحاجات من استهلاك الأسرة السورية، وتعديل هذه الحصص وفق أرقام أٌقرب إلى الواقع، تظهر نتائج مختلفة جدياً حول تركيب الإنفاق في سورية لأغلب الأسر السورية، وتحمل هذه النتائج الرقمية روابط عميقة مع مسببات التضخم وانخفاض الأجر الحقيقي للسوريين وانحراف الثروة باتجاه الأرباح، وبالتالي تحمل معها إشارات جدية نحو طرق الحل والسياسات الأكثر ضرورة وإلحاحاً.
نتائج مباشرة من الجدول
كل من الغذاء والنقل أو الغذاء والاتصالات تحتل 98 % من سلة الاستهلاك.
كل من الغذاء والنقل والاتصالات، والسكن بمفردها تتجاوز رقم متوسط الإنفاق الشهري للأسر.
يدل رقم الاستهلاك الغذائي الكبير على تراجع مستوى المعيشة وانخفاض القدرة الاستهلاكية للأسر.
لا تمتلك الأسرة السورية بناء على متوسط الأجور العام في سورية المقدر بـ 13 ألف ليرة، أن تحقق الاستهلاك الوسطي المقدر للغذاء فقط.
تعديل النقاط المخصصة للغذاء، للاتصالات ، للنقل وللسكن في سلة الاستهلاك يساهم في زيادة واقعية السلة ويجعل من تغير أسعار هذه السلع، يعطي محدداً أدق لتغير المستوى العام للأسعار وبالتالي لرقم تضخم أدق.
تعطي البيانات السابقة دلالة على طابع الاستهلاك، وعدم القدرة على الإنفاق على السلع الغذائية الأساسية وبالتالي الإنفاق بالحد الأدنى على سلع متنوعة أخرى وحاجات ضرورية مثل: الملابس والأحذية، الصحة، والتعليم.
تشير الأرقام إلى أن أغلب الأسر السورية لا تمتلك القدرة على تطوير احتياجاتها وإدخال السلع الجديدة ضمن العادات الاستهلاكية، وما يعكسه ذلك من عدم القدرة على التطور التعليمي الثقافي الترفيهي لأغلب السوريين.
زيادة الأجور
تهدف الحكومة في قرارها المناقش ربط ارتفاعات الأسعار بارتفاعات في الأجور، وهو أمر ضروري لأن أي ارتفاع في الأسعار هو بشكل مباشر انخفاض في قيمة الأجر الحقيقي، ويصب هذا الانخفاض في زيادة كتلة الأرباح، بالتالي لابد من زيادة كتلة الأجور مع ارتفاعات أسعار السلع.
ولكن الملاحظ من تجربة السوريين خلال العقد الماضي تحديداً، أن زيادات الأجور التي أخذت شكل زيادة كتلة الرواتب والضخ النقدي، كانت تترافق مع ارتفاعات كبرى في الأسعار، أي أن زيادات الأجور كانت تتحول مباشرة إلى الأرباح عن طريق رفع الأسعار.
ولهذا سبب موضوعي وجوهري يتعلق بخلل بنيوي في الاقتصاد السوري، وهو الخلل بين الكتلة النقدية والكتلة السلعية، الذي يعتبر المحدد للتضخم في سورية من حيث الاتجاه، أي هذا الخلل يجعل من زيادة التضخم اتجاهاً حتمياً في المدى البعيد، نتيجة تدهور قيمة العملة.
الخلل البنيوي
التضخم في المدى البعيد
النقد الذي يضخ في التداول يفترض أن يستخدم في العملية الإنتاجية وذلك شرط حتى يتحول هذا النقد إلى توليد ثروة، حيث أن العملية الإنتاجية المحلية تؤدي إلى زيادة التشغيل (يتحول جزء من النقد إلى أجور)، وتؤدي إلى زيادة الطلب على مستلزمات الإنتاج، وتولد منتجات جديدة بقيمة مضافة تعطي النقد المتداول قيمة حقيقية وتزيد من قيمة الليرة.
في ظل البنية الريعية للاقتصاد السوري،يجري ضخ النقد مع استمرار خلل بنيوي هو ضعف الجهاز الإنتاجي، وزيادة حصة السلع المستوردة من كتلة السلع المستهلكة، وبالتالي توسع في التجارة، بتسارع أكبر من تسارع الصناعة والتشغيل. وهذا ما يجعل الاتجاه العام للكتلة النقدية المطروحة، ولوحدتها وهي الليرة السورية، نحو الانخفاض، فيتطلب شراء أية سلعة كمية أكبر من الليرات ويؤدي إلى ارتفاع المستوى العام للأسعار.
السعر الاحتكاري
والتضخم في المدى القريب
إذاً البنية الإنتاجية المترهلة وتراجع قيمة الليرة تسبب ارتفاع الأسعار بالمدى البعيد، ولكن من خلال دلالات تركيبة الإنفاق للأسرة السورية يظهر أنه لدى السوريين فجوة كبيرة في الإنفاق، وبالتالي أي زيادة في الأجر سوف تصرف في حاجات أساسية لا تتأثر بمستوى الطلب، وهي المواد الغذائية التي تشكل 88% من استهلاك السوريين.
السلع الغذائية دائمة التوفر وهي متطلبات ضرورية غير ترفية وهناك فجوة كبيرة في تأمينها بالتالي فإن أسعارها لا تنخفض لأن الطلب عليها هو طلب حتمي لا ينخفض إلا في بعض أنواعها، ولذلك يلاحظ أن ارتفاعات الأجور كانت تترافق مباشرة بارتفاعات بأسعار السلع الغذائية بداية، وهذا لا يتعلق بقيمة الليرة السورية وبالأثر التضخمي على المدى البعيد، وإنما يتعلق بالقدرة على رفع أسعار هذه المواد والإقبال على شرائها مهما ارتفعت أسعارها، وهذه العملية تتم عن طريق محتكري المادة من التجار الكبار.
يدرك كبار محتكري سوق السلع الغذائية المحلية والمستوردة بأن سلعهم تبقى في مقدمة سلة الاستهلاك وفي مقدمة ضرورات الإنفاق اليومي ويمتلكون القدرة على التحكم بسعرها ورفعها في عملية واعية لامتصاص كتلة النقد التي تطرح في الأسواق عن طريق رفع الأجور.
فيما يخص إنتاج هذه السلع فقد ازدادت وتزداد تكاليف إنتاج السلع الغذائية المحلية من رفع أسعار الوقود إلى أسعار السماد، إلى الأعلاف إلا أن الملاحظ أن الفارق كبير بين الزيادة الطارئة على سعر المنتج والزيادة الطارئة على السعر النهائي الذي يصل للمستهلك.
فعلى سبيل المثال ترتفع تكاليف الأعلاف والنقل للمداجن وصغار المنتجين إلى 115 ليرة بينما يضطرون لبيع الكيلو ب 90 ليرة إلى كبار تجار الدواجن الذين يبيعونه للمستهلك النهائي بحوالي 160 ليرة للكيلو.
والمثال للدلالة على أن ارتفاع تكاليف الإنتاج يتحملها المنتج، بينما يستفيد منها محتكرو عملية التوزيع إلى الأسواق.
يضاف إلى هؤلاء تجار استيراد المواد الغذائية المستوردة مرتفعة السعر وتساهم بنسبة كبيرة تضخيم الأسعار، لذلك يتضح أن التوزيع يبقى الحلقة الأساسية التي تحدد مستوى رفع الأسعار بالمدى القريب..
رفع الأجور الحقيقية
بكسر احتكار التوزيع
إذاً تقتضي الدقة البحث التفصيلي في آليات التوزيع، لمعرفة كيفية ضبط التضخم المفتعل في المدى القريب، حيث تحمل الأرقام دلالة هامة على آليات مكافحة التضخم أو رفع مستوى المعيشة..فإذا ما كان الاستهلاك على المواد الغذائية يشكل الجزء الأكبر من سلة الاستهلاك، وبالمقابل ارتفاعه يشكل جزءاً هاماً من التأثير على قيمة الأجور بالتالي فإن حماية الأجور من التضخم والتخفيف من آثاره يلتقيان في كل إجراء يساهم في تخفيض أسعار المواد الغذائية.
طريقتان لزيادة الأجور
اقتراح الحكومة يعتمد على الضخ النقدي المباشر، أي زيادة كتلة الأجور في القطاع العام والخاص مع كل زيادة لمعدل التضخم.ارتفاع معدل التضخم بمقدار 3% سيستدعي زيادة كتلة الرواتب ( في قطاع الدولة فقط) بمقدار 8.25 مليار ليرة. بينما القطاع الخاص المساهم الأكبر بكتلة الأجور، لن يلتزم برفع الأجور، وخاصة إذا ما علمنا أن الجزء الأعظم من بنية القطاع الخاص في سورية هي ورش صغيرة تعرضت للتوقف بنسب كبيرة، ولا يلتزم أغلبها بتسجيل عماله بالتأمينات وبالتالي قادر على تجاوز قرار رفع الأجور.
أما الطريقة الأخرى فتكمن في أن هذه الكتلة النقدية المضافة إلى الأجور مباشرة يمكن أن تدفع للأجور بشكل غير مباشر، ولكن في الموضع الذي يؤدي إلى ضمان الزيادة الحقيقية في الأجور بالتوجه إلى الحصة الأساسية للاستهلاك وهي استهلاك المواد الغذائية.
ضخ المبالغ النقدية في تخفيض أسعار المواد الغذائية يحقق أهدافاً في المدى القريب والبعيد.
في المدى القريب يؤدي إلى لجم التضخم ورفع الأسعار المفتعل الذي يسببه السعر الاحتكاري لتجار حلقات التوزيع المتعددة بين المنتج والمستهلك. وفي المدى البعيد يقلل من ضخ الكتل النقدية في السوق بالشكل السائل المباشر، القابل للامتصاص بسرعة، وتوجيهه نحو ضخ الكتلة النقدية في الأجور، وما يحمله ذلك من أهمية في منع انحراف الثروة نحو الأرباح وتصويبها باتجاه الأجور.
كيف يحارب التضخم المفتعل
كسر احتكار التوزيع : يحتكر توزيع المواد الغذائية سواء المحلية ( الخضار الفواكه اللحوم الفروج والبيض) تجار محليون معدودون، ولديهم القدرة على تحديد سعر بهامش ربح غير خاضع لرقابة أو منافسة، وذلك نتيجة لحجم تحكمهم بالعرض، بالتالي تفريغ هذه القدرة يقتضي الرقابة أو المنافس، وهنا يكمن دور مؤسسات التدخل الإيجابي للدولة، التي يتوجب عليها أن تراقب وتدعم المؤسسات الكفيلة بالقيام بدور الموزع الرئيسي للمواد الغذائية في السوق وأن تحول الأموال المنفقة لدعم هذه المؤسسات، أو أن تبتكر آليات جديدة تربط بين المستهلك والمنتج .
الدولة كمستورد
جزء أساسي من ارتفاعات أسعار السلع هو في ارتفاع أسعار السلع المستوردة، وهو ما يتطلب جملة إجراءات تبدأ من دراسة استيراد هذه المواد جهاتها وأسعارها وإمكانية توفير بدائلها. فاستيراد كبار التجار للمواد الغذائية من الأسواق الأوروبية والعربية سابقاً بأسعار مرتفعة، مع تكاليف القطع والرسوم، يتطلب الضبط، والبحث في بدائل أخرى كأسواق من الممكن للدولة في المرحلة الحالية أن تستورد منها، (أي دول لا تطبق العقوبات الاقتصادية)، ودول من الممكن البحث في تخفيف تكاليف القطع معها والحصول على عروض استيراد مغرية .